المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 11 رمضان 1439هـ
في رحاب دار المتقين
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
حديثنا اليوم ضمن سلسلة الحديث عن اليوم الآخر وما يتعلق به، وصل بنا المطاف إلى الحديث عن الجنة، عن جزاء الله لعباده المتقين، والحديث في هذا الموضوع شيقٌ وجذابٌ بحسب النصوص القرآنية وما تضمنته، ومن يتأمل في آيات الله، من يتأمل فيما وصف الله به ما أعده من النعيم والجزاء العظيم لعباده المتقين، يدرك حقائق مهمة جدًّا، ومن المهم للإنسان أن يرسِّخها في نفسه؛ لأنها ستمثل حافزًا ودافعًا إلى العمل الصالح، إلى الاستقامة.
أول هذه الحقائق: أن الاستجابة لله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- والطاعة له، والسير على هديه وفي نهجه، هو فوزٌ للإنسان وخيرٌ للإنسان ومصلحةٌ مؤكَّدةٌ للإنسان، وهو الكفيل بالوصول بالإنسان إلى السعادة الحقيقية والأبدية، فلا خسارة مع الله ولا غبن، والإنسان عليه أن يعي جيدًا أن الله غنيٌ عنه وعن أعماله الصالحة وعن طاعته، وأنه هو كإنسان المستفيد والمنتفع بأعماله الصالحة بطاعته بالنتائج المترتبة عليها، أما الله فهو الغني الذي لا يحتاج إلى أعمالنا، ولا تضره معصيتنا.
أن الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- فيما أمرنا به ودعانا إليه وهدانا إليه، أمرنا بما فيه الخير لنا والصلاح لنا والفلاح لنا، وما يلبِّي احتياجاتنا، وما يدفع الشر والخطر العظيم عنا في الدنيا والآخرة، أن الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- رحيمٌ بهذا الإنسان وكريمٌ عظيمٌ واسع الرحمة وواسع الخير وهو أكرم الأكرمين، وبالتالي فهو يعطينا ويكافئنا على الأعمال الصالحة التي هي من الأساس خيرٌ لنا ومصلحةٌ لنا وفائدةٌ لنا ونفع لنا، يعطينا عليها الجزاء العظيم.
ثم حقيقةٌ أخرى: أن كل ما يمكن أن يبتعد به الإنسان أو بسببه عن طاعة الله، عن نهج الله، عن الطريق التي رسمها الله، كل ما يمكن أن يدفع بالإنسان إلى معصية الله لا يساوي شيئًا أبدًا مهما كان من رغبات الإنسان، وأهوائه وشهواته، لكنه لا يمثل شيئًا ولا يساوي شيئًا بجانب ما سيتحقق للإنسان أصلًا من الرغبات والخير وما يحقق له السعادة، إذا كانت هي الرغبة، إذا كانت هي الشهوة، إذا كان الاندفاع والسعي وراء السعادة هو الذي يدفع بالإنسان إلى المعصية، سواءً المعصية في تجاوز حدٍ من حدود الله، أو في التنصل عن مسؤولية من المسؤوليات، والتفريط في طاعة من الطاعات، إذا كانت هي الرغبات والأهواء والشهوات والسعي وراء السعادة واللهث وراء السعادة، فالذي ستصل إليه بالمعصية لا يساوي شيئًا أبدًا في مقابل ما ستحصل عليه بالطاعة، ما ستحصل عليه من خلال رضا الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- الذي يمثِّل فعلًا رغبةً حقيقيةً، سعادة حقيقيةً، نعيمًا عظيمًا، يمثِّل فعلًا ما يلبِّي الرغبة الحقيقية لهذا الإنسان، ويسد الحاجة الحقيقية لهذا الإنسان.
فليس هناك من غبن في طريق الحق، ولا خسارة، على العكس؛ خسارة الإنسان الكبرى والفادحة والرهيبة والهائلة والفظيعة هي بمعصيته لله، هي بابتعاده عن نهج الله، هي باللهث وراء تلك الأهواء التي يستغلها الشيطان، فيردي هذا الإنسان، ويهلك الإنسان، ويخسر الإنسان بسبب ذلك.
طاعة الله والإتباع لهديه ثمرته في الدنيا: العزة، الكرامة، الخير، السعادة، السمو، وما أحلَّ الله في هذه الدنيا من الطيبات والحلال فيه ما يغني هذا الإنسان، وفيه ما يلبِّي حاجته الفطرية والغريزية، أما ما أعدَّه في الآخرة وفيه الوفاء للأجر، وفيه التتمة الحقيقية للأجر، وفيه الأجر الحقيقي والعظيم والواسع، فهو الشيء العظيم الذي سنتحدث عن بعضٍ منه، عن القليل منه بحسب ما تضمنته النصوص الواردة في القران الكريم في بعضٍ منها، وإلا فالحديث في هذا يطول جدًّا.
المتقون.. لا يحزنهم الفزع الأكبر
الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ذكر لنا في الكتاب الكريم، في القرآن المجيد، ما يحظى به الإنسان المتقي لله في ساحة الحشر من رعاية إلهية، من نعيم، من تكريم، من طمأنة، والإنسان- كما تحدثنا بالأمس وفي ما قبل الأمس أيضًا– منذ أن تعود إليه حياته في الآخرة، في القيامة، منذ أن يحييه الله مرةً أخرى للحساب إلى ساحة الحساب، فور ذلك تأتيه الملائكة لتطمئنه، وهذا أكَّد عليه القرآن في عددٍ من النصوص، منها قول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: الآية103]، هؤلاء أولياء الله، عباد الله المتقون {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}، هول وأحداث يوم القيامة وما فيها، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، يقول في آيةٍ أخرى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: من الآية30]، فالإنسان تأتيه الطمأنة في تلك اللحظة الحسَّاسة والحرجة جدًّا، التي هو أحوج ما يكون فيها إلى ما يطمئنه، إلى ما يهدئ من روعه، فتأتيه الطمأنة من ملائكة الله في لحظة مهمة جدًّا وحسَّاسة، فعلًا من يتأمل تعتبر تلك اللحظة وتلك الطمأنة نعمة عظيمة جدًّا ورعاية إلهية كبيرة في وقتها المناسب والحسَّاس.
ما تحدث عنه القرآن الكريم من تسليم صحائف الأعمال إلى عباد الله المتقين بأَيمَانهم، وما في ذلك من البشارة لهم، ما في تيسير الحساب، ما فيه محطات أخرى من تمييزهم وفرزهم، ما في انتصارهم في المحاكمة مع أعدائهم في هذه الدنيا، ما في الرعاية الإلهية لهم مما يقدم لهم من شراب وطعام، وورد في الأحاديث الأخرى الحديث عن حوض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن ينال الشرب من ذلك الحوض، والمقام المحمود لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ومن يحظون بذلك التكريم وذلك النعيم…الخ.
وإذا الجنة أزلفت!
من المحطات المهمة جدًّا بعد انقضاء مرحلة الحساب: تقريب الجنة، ومشاهدة عالم الجنة، ذلك العالم العظيم، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه الكريم {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: الآية90]، وفي آيةٍ أخرى يقول: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: الآية31]، يقول في آيةٍ أخرى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: الآية13].
هذه النصوص القرآنية المباركة تفيد أن عالم الجنة، ذلك العالم العظيم، العجيب، الذي أعدَّه الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- برحمته وبكرمه وبفضله الواسع ليكون خير جزاء، ونِعم دار المتقين لعباد الله المتقين، تُقرَّب من ساحة القيامة، من ساحة الحشر، فيأتي ذلك العالم الكبير الواسع العظيم، يأتي ويقرَّب تمهيدًا لانتقال عباد الله المتقين إليه؛ حتى لا تكون هناك عملية سفر مطولة وبعيدة، وحتى لا تكون عملية الانتقال إلى الجنة عملية صعبة ومعقدة وسفر بعيد وطويل ومرهق، هذا جانب من الرعاية الإلهية، من التكريم، من السعادة، تُقرَّب الجنة بكلها، ويؤتى بها بنفسها، وهي عالم كبير جدًّا، سيأتي الحديث عن سعته من خلال النصوص القرآنية، والله أعلم كيف ستكون سعادتهم، ارتياحهم، بهجتهم، سرورهم، وقد شاهدوا اقتراب الجنة، وطُمئِنوا، وأتتهم البشارات والتأكيد والحكم الإلهي بأنهم سينتقلون إليها.
ثم تأتي عملية الحشر إلى الجنة والانتقال إليها، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} [مريم: الآية85]، ويقول -جلَّ شأنه-: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [الزمر: من الآية73]، وتلحظون في الآيات كلها حديث عن المتقين، الذين اتقوا، هذا شيء مهم؛ لأنه رسم طريق الجنة، طريقها هي: (التقوى)، إذا أردت أن تكون من أهل الجنة، إذا أردت الفوز بالجنة والنجاة من النار، فالطريق المضمون، المؤكَّد عليه، المنصوص عليه في القرآن الكريم، الذي ارتبط به الوعد الإلهي، هو: التقوى.
إذًا، الأفضل للإنسان بدلًا من أن يمنِّي نفسه، أن يتيه في هذه الحياة، أن يخادع نفسه، أن ينخدع ببعضٍ من الكلام والقيل هنا وهناك، أن يأخذ بالمضمون الموثوق المنصوص المؤكَّد عليه، هذا هو الطريق الصحيح والاتجاه الصحيح، أن يأخذ الإنسان بما هو موثوقٌ به.
مواكب الفوز والكرامة
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}، الحديث عنهم (عن المتقين)، طبعًا في موكبٍ أو مواكب متعددة؛ لأن البعض يتقدم، البعض يلحق، البعض… بحسب النصوص القرآنية الأخرى {إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}، وحتى هذا النص (زُمَراً) زمرة تتقدم، زمرة تلحق بها، مجاميع ووفود، الله أعلم كيف ستكون هذه التصنيفات! بحسب الزمن، أو بحسب المقام، فيما يفهم من بعض النصوص أن أول أهل الجنة دخولًا، وأول من يصل إلى الجنة هو رسول الله -محمد صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- والفائزون معه ربما من المقام العظيم، هذا بحسب بعض النصوص، ولكن لا يعنينا تصنيف هذا: من يدخل أولًا، كيف ستكون هذه المسألة بالتدقيق والتحقيق والتفصيل، النص القرآني يوضِّح أنهم سيذهبون (زُمَراً): جماعات جماعات صوب الجنة وينتقلون على هذا النحو.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا}، وهذا حين الوصول إلى عالم الجنة، لا يستطيع أبدًا أن يتخيل، يفكر الإنسان يتأمل، أن يتخيل مدى السعادة، مدى الارتياح، مدى السرور في تلك اللحظة، لحظة الوصول إلى عالم الجنة، وماذا تعنيه تلك اللحظة، إنها تعني الوصول إلى السعادة الأبدية، تعني الوصول إلى الأمن والطمأنينة الدائمة، تعني تحقق الفوز العظيم، تعني النجاة المؤكَّدة والأبدية من عذاب الله وسخطه، تعني الكرامة، تعني الفوز بالارتقاء إلى ذلك المقام العظيم، مقام التكريم الإلهي، تعني أشياء كثيرة، وِفوق إدراك الإنسان وِفوق شعوره وِفوق خياله وِفوق مستوى التعبير.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: من الآية73]، حين الوصول مع المجيء وفتح الأبواب؛ لأنه يظهر من هذا النص القرآني فتح الأبواب قبل لحظة الوصول، وهذا من التكريم لهم، من تكريم الضيف أنك لن تنتظر له حتى يصل إلى الباب ويطرق ويبقى منتظرًا على الباب، يبقى منتظرًا لبعض الوقت، أو تُطَوّل عليه، ما تفتح له إلا وقد هو ضابح، يطرق الباب ويطرق وينادي: [يا خبير، في البيت أحد، هل أحد سمعنا يجيب يفتح…]. |لا|، المسألة مختلفة، تكريم، والذي يكرمهم هو أكرم الأكرمين، أكرم الأكرمين، الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ربنا الكريم العظيم الرحيم ذو الفضل الواسع العظيم، هل أحد سيحتاج أن يعلمه أو يعلم ملائكته آداب الضيافة والاستقبال؟! |لا|، {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، كانت قد أصبحت مفتوحة، فوصلوا إليها وأبوابها مفتَّحة لهم، أما المعنيون بالاستقبال والترحيب فهم ملائكة الله والملائكة المعنيون بالجنة.
التشريفات تستقبل ضيوف الرحمن
عالم الجنة، ذلك العالم العظيم الذي هو دار ضيافة أبدية، يعيش الإنسان فيه في حالة ضيافة للدائم والأبد، المعنيون به، المعنيون بإدارته هم الملائكة، إدارة الجنة هي: إدارة من الملائكة، ولهذا جاء التعبير القرآني: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا}، خزنة الجنة هم المعنيون بإدارة شؤونها، ورعاية أهلها، فالإدارة لن تكن من البشر، ونحن في بعضٍ المحاضرات واللقاءات- عادةً- نُعَلِّق على هذه المسألة، نقول: [البشر تعبوا من بعضهم البعض إدارة إدارة عليهم من أنفسهم]، إدارة الملائكة- بالتأكيد- إدارة راقية جدًّا، والإدارة- في واقع الحال- هي مسؤولية، ولذلك لم يُكلَّف أحد في داخل الجنة بهذه المسؤولية؛ لأن الجنة ليست دارًا للمسؤولية، دار المسؤولية هي الدنيا، دار المسؤوليات، والأعمال، والمهام…الخ. هناك تعيش وأنت خفيف الحال، لست مثقل الظهر بأي مسؤولية من المسؤوليات، ما عاد به شيء مسؤوليات هناك؛ لأن الحياة هناك حياة سعادة، ارتياح، نعيم، هدوء، ولا هم، ولا غم، ولا مشكلة، ولا عناء، ولا أي مسؤولية، المسؤولية فيها جانب من المشقة على الإنسان، أو العناء، أو أحيانًا الانشغال… ولا يراد لأهل الجنة أن ينشغلوا بأي شيء، غير أن يرتاحوا، وأن يتنعموا، وأن يهنئوا بما هم فيه.
فالإدارة في عالم الجنة موكلة بشكلٍ تام ومكلف بها ملائكة من ملائكة الله، فهم من يستضيفون، ومن يستقبلون، وبحفاوة، وملائكة الرحمة، ملائكة الرضوان، حتى المسؤول الأعلى عن إدارة شؤون الجنة في بعضٍ من النصوص أن اسمه (رضوان) خازن الجنة، كل ما هناك: الرضا، الرحمة، أجواء الخير، الحفاوة، الراحة، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر: من الآية73]، يسلِّمون عليهم، ويتلقونهم بالتسليم، وفعلًا وصلوا إلى دار السلام: السلام من كل شر، السلام من كل ضر، السلام من كل هم، السلام من كل غم، السلام من كل بلاء، السلام من كل محنة، السلام من كل ألم، السلام الذي يشمل كل شيء وصلوا إليه، الجنة واحدٌ من أسمائها (دار السلام)، {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس: من الآية25]، هذا في القرآن الكريم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}، بهذه الحفاوة والاستقبال يستقبلهم الملائكة (وطِبْتُمْ)، وهذا- كما قلنا بالأمس- الفرز في عالم القيامة، في ساحة الحشر، بين المتقين وغيرهم على هذا المعيار: الطيِّبون إلى الجنة، الذين طابوا في هذه الدنيا، تنظفوا، طهروا من كل الخبث بالصلاح، بالاستقامة، بالطاعة، بالعمل الصالح، بالتزكية؛ فطهروا وطابت أنفسهم من الخبائث {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا}، تفضلوا (بحسب تعبيرنا) {خَالِدِينَ}، ادخلوا إلى الجنة {خالِدينَ فيها}، باقين فيها للأبد في حياة سعيدة وهنيئة وطيبة، لا موتٌ فيها ولا كدر.
ويدخلون، لحظة الدخول هذه إلى عالم الجنة ومشاهدة ذلك العالم، هي لحظة في النصوص عن النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ما معناه: أن لو بقي موت لمات الإنسان فيها من شدة الاندهاش، والفرحة، والسعادة، وعظيم ما يشاهده، ويدرك أنه قد أصبح من سكَّان ذلك العالم، ومن أصحاب الجنة، وممن يعيشون ذلك النعيم، لمات الإنسان بسرعة، [ما عاده ما بلا يجي له جلطة] يعني: يموت فجأة، فورًا، لكن لا موت لا موت أبدًا، يعني: سعادة تتملك كل مشاعره، وكل وجدانه، وكل أحاسيسه.
الجنة.. العالم الكبير الواسع
الجنة في النص القرآني عالمٌ كبيرٌ جدًّا جدًّا، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه الكريم: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: من الآية133]، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ): جنة هي بهذه السَعَة، بهذا الكِبَر، بهذه العظمة، اتساعها الهائل جدًّا جدًّا جدًّا لهذه الدرجة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، ولا نستطيع أن نتخيل هذه السعة؛ لأن عالم السماوات مع الأرض فسيحٌ جدًّا، لا نستطيع أن نتخيله أبدًا، المسافات التي تحسب اليوم ما بيننا وبين الشمس مثلًا، أو ما بيننا وبين بعض الكواكب، أو بيننا وبين بعض النجوم، ما بين مجرةٍ وأخرى تحسب بالملايين في بعضها، ما بين المجرات بالملايين والبلايين من السنين الضوئية، والسنين الضوئية: هي اختصار في الحساب الفلكي، حيث تصبح الحسابات بزمننا هذا بالمقدار الذي يمكن أن تقطعه- مثلًا– الطائرة من الأرض إلى الشمس، ولا تستطيع طائرة، لكن فيما لو افترضنا وقطعت، كم ستسافر؟ مدة زمنية طويلة جدًّا، ما نستطيع نتحقق من الأرقام، عشرات السنين، سبعة عشر عامًا في بعض المراحل.
على العموم، المدة التي يقطعها الضوء من الشمس إلى الأرض تُحسب في الحسابات الفلكية لقياس المسافات ما بين الأرض وما بين كواكب أو نجوم بعيدة، ما بين المجرات كذلك. بمعنى: السعة هائلة جدًّا جدًّا جدًّا، وعالم الجنة عالمٌ كبيرٌ للغاية، هو بهذه السعة: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، فهي بهذه السعة، والله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، الأعمال التي يوجِّهنا الله إليها، كلما عملنا شيئًا منها هو خطوة تقرِّبنا من هذه الجنة، يقول في آيةٍ أخرى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} [الحديد: من الآية21]، يعني: ليست عالمًا عظيمًا ثم صغيرًا، يتزاحم فيه أهله، ويتنافسون فيه، ويتنازعون عليه، والبعض ما معه إلا قطعة صغيرة، وشقة صغيرة، أو… لا، سعة هائلة جدًّا، على درجة عالية جدًّا، وصفها القرآن في ما هي عليه من تشكيل في قوله تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وهنا تجد الوعد الإلهي أتى لمن؟ للمتقين، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: من الآية15].
الجنة.. وأنهارها المتدفقة
عالم الجنة هو على هذا النحو العجيب جدًّا: فسيح وواسع، ومغطى بالأشجار والفواكه والثمار، والأنهار فيه بهذه الأشكال المتنوعة والمتعددة: أنهار كثيرة ومتعددة من الماء النقي، الذي يمكن للإنسان حتى أن يشرب منه، (غَيْرِ آسِنٍ): فلا هو متغير ولا متلوث أبدًا، عالم الجنة ليس فيه أي شيء يلوثه أبدًا {غَيرِ آسِنٍ وَأَنهارٌ مِن لَبَنٍ}، أنهار بيضاء متدفقة باللبن، كذلك غير المتغيِّر {لَم يَتَغَيَّر طَعمُهُ}، وإذا لم يتغيّر طعمه بالتأكيد لن يتغير ريحة ولا لونه، أول ما يمكن أن يطرأ في تغيِّر اللبن التغيِّر في مذاقه، أن يحمض مثلًا، ما يأتي التغيٍّر في اللون، في الرائحة، إلا بعد تغيِّر الطعم.
فتلك الأنهار المتدفقة من اللبن، تلك الأنهار المتدفقة والكثيرة من الخمر، من خمر الجنة الذي هو لذة للشاربين، وليس له أي أضرار لا على ذهنية الإنسان وتفكيره، ولا على وضعه الصحي، ولا… أبدًا، {لَذَّةٍ لِلشّارِبينَ}، بقي منه لذته، وذهب منه سكره وأضراره.
{وَأَنهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى}، أنهار أخرى متدفقة من العسل الذي لا تشوبه أي شوائب، يتخيل الإنسان عالم الجنة بأشجارها ونباتاتها الخضراء، وفواكهها وثمارها، ثم الأنهار الجارية فيما بينها، أنهار جارية: شيءٌ منها أنهار الماء، شيءٌ آخر أنهار اللبن، أنهار الخمر، أنهار العسل…الخ. عالم، كيف سيكون شكله، شكل تلك الأنهار، شيء عجيب جدًّا.
الجنة.. نعيم فوق الخيال!
ما يتخيل الإنسان الشكل العام للجنة بمستواه العظيم وما فيها من النعيم، يُعبِّر الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في نصٍ روي عنه: (فِيهَا مَا لَا عَينٌ رَأَت)، لم يسبق لك أن شاهدت مثل تلك الروعة، مثل ذلك النعيم، مثل ذلك الشكل في عالم الجنة أبدًا، (وَلَا أُذُنٌ سَمِعَت، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَر)، ما يمكن أبدًا أن يكون أن قد خَطَرَ لأحد على بال أنه سيشاهد على ذلك المستوى الراقي أبدًا، من كل ما سيشاهده من النعيم.
في نصوص عن النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- فيما يتعلق بالجنة حتى في حصبائها، في مكوناتها: (حَصبَاؤها الدُّر واليَاقُوت) الأحجار الكريمة التي هي نادرة الوجود عندنا في هذه الدنيا، وإن وجد شيءٌ منها يستخدم للزينة، بحسب ما يتمكن منه القليل من الناس في هذه الدنيا، مثلًا: هذا الزبرجد، الدُر، الياقوت، المرجان، اللؤلؤ، الذهب، الفضة، الماس، المعادن والأحجار الكريمة التي هي نادرة في الدنيا، يستخدمها الإنسان زينة، أو يستخدمها أحيانًا عملة غالية… أو غير ذلك. بدلًا من أن يكون عالم الجنة مكونًا- مثلًا– من الطين المشابه لطين هذه الدنيا. |لا|، الجنة تكوينها تكوين آخر، إذا كانت هذه حصباءها: الدُّر الجميل جدًّا، والياقوت كذلك الذي هو من الأحجار الكريمة في الدنيا، ونادر الوجود، وقليل الحصول عليه، العملية صعبة، وحالة نادرة تتوفر للقليل من الناس في هذه الدنيا.
المباني في الجنة كذلك: لبنةٌ من ذهب، لبنةٌ من فضة، خيامٌ من اللؤلؤ، خيامٌ من الزبرجد، خيامٌ من الزمرد، خيامٌ… كل تكوينات ذلك العالم هو من الأحجار الكريمة الراقية، الأحجار الكريمة عندنا والمعادن النفيسة قليلة في الدنيا، ومحدودة في الدنيا، والقليل من الناس من تتوفر لهم في هذه الدنيا، وفي نفس الوقت لا ترقى إلى مستوى ما هو في الجنة، فما ذهب الدنيا كالذهب في الجنة، ولا الفضة في الدنيا كالفضة في الجنة، ولا أي شيءٍ من هذه النفائس والأشياء الكريمة والنادرة في هذه الدنيا كمثل ما هو هناك في الآخرة، في الجنة، في الجنة تتوفر هذه الأشياء وتتكون، الأغراض المصنعة والمتنوعة هناك للطعام، للشراب، للزينة من الذهب، من الفضة، من هذه الأشياء الكريمة والجميلة جدًّا، والقليلة في الدنيا.
{وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: من الآية15]، في عالم الجنة تتوفر كل الثمرات، وكل الفواكه التي يتغذى منها الإنسان، ويرتاح بها الإنسان، مع مغفرة من الله –سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى– والمغفرة يترتب عليها إحساسهم بالسعادة، إحساسهم بالخلو من عبء الذنوب والمعاصي، فيه تشريف وتكريم، الإنسان يعيش ويُحِس نفسه لا ذنب عليه، ولا معصية، ولا… أبدًا، ما يبقى في إحساسه وفي وجدانه شعور بالذنب وشعور بالمعصية، ولهذا أثر نفسي، أثر معنوي، أثر في التكريم…الخ.
في عالم الجنة الواسع جدًّا جدًّا جدًّا يمكن للإنسان أن يسكن في أي بقعةٍ من ذلك العالم، في آيةٍ أخرى يتحدث عن تعبير أهل الجنة في الجنة، قولهم: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ نَشاءُ} [الزمر: من الآية74]، عالم واسع جدًّا، ما هو ضيق، وليس هناك من قيود عليك في التنقل في ذلك العالم، هنا في الدنيا قد تشاهد في التلفاز بقعة هنا أو هناك جميلة فيها بعض الخضرة، بعض الأشجار حتى غير المثمرة، ليست بأشجار فواكه ولا، إنما بلونها الجميل والمياه المتدفقة فيها، فتتمنى أن لو أمكنك الذهاب إلى هناك، وأمامك الكثير: التكلفة المالية مشكلة عليك، إذا توفرت التكلفة المالية فأحيانًا إجراءات السفر، هل هي متاحة أم غير متاحة، الإجراءات والتعقيدات في التنقل في هذه الدنيا من بلد إلى بلد، ومن دولة إلى دولة، من قطر إلى قطر، تكاد تكون أحيانًا مستحيلة في كثيرٍ من الأحوال، وأمور معقَّدة في هذه الحياة، أما هناك لا، بكل يسر، بكل حفاوة، بكل تكريم، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ نَشاءُ}، تتنقل، تذهب من هنا إلى هناك، تزور.
ثم في ذلك العالم العجيب، ذلك العالم الأخضر، ذلك العالم بما فيه من النعيم العظيم تتوفر كل الرغبات لهذا الإنسان، وتتوفر كل الطلبات لهذا الإنسان، هذه مسألة مستحيلة في الدنيا، ما يمكن تتوفر للإنسان كل الرغبات ويرتاح بها، إن توفرت رغبة فيشوبها الكثير من المنغصات، وتفوت الكثير من الأمور الأخرى، ما هناك أحد أبدًا تتم له كل رغبات نفسه مائة بالمائة ولا يشوبها أيٌ من المنغصات أبدًا، ما هناك أحد يتحقق له هذا أبدًا.
فيها ما تشتهيه الأنفس
يقول الله عن الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ}، كل ما يمكن أن تشتهيه نفسك: من طعام، من شراب، من ملابس، من ملذات الحياة والراحة النفسية متوفر هناك، هذه نعمة عجيبة جدًّا، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ}، فيها ويتوفر، وليس فيها تشاهدوه ثم أنت لا تمتلك ثمنه، أو لا يمكنك الحصول عليه، أو هناك عائق، أو هناك مشكلة، أو هناك… |لا|، هو يتوفر، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: من الآية71]، ما يلتذ به نظرك (بصرك)، كل المشاهد الجميلة التي تتمتع بمشاهدتها، ترتاح لرؤيتها، وهذا يشمل أشياء كثيرة جدًّا، لا نستطيع الحديث عنها، ولا نعلم بالكثير منها، {وأنتم فيها خالدون} مع هذا: الخلود للأبد، الحياة الأبدية التي لا نهاية لها، لا بموت، ولا بانتقال، ولا بأي شيء.
الملائكة يقولون أيضًا لعباد الله المتقين: {وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت: من الآية31]، يعني: في الجنة، {مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ}، وهذه عبارة جامعة شاملة واسعة، كم سيدخل تحتها من التفاصيل، (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ)، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، ما تطلبونه، ما ترغبون به، ما تتمنونه يتوفر.
الجنة عالم واسع جدًّا، لها هذه السعة التي عرضها السموات والأرض بكلها، مع أن سكانها قليل للأسف؛ لأن الأكثرية البشرية- بحسب النصوص القرآنية- تذهب إلى جهنم -والعياذ بالله-.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: من الآية46]، في العالم الواسع، عالم الجنة الواسع، للإنسان فيه: مزارعه الخاصة، بساتينه الخاصة، قصوره الخاصة، إضافة إلى ما هو أوسع من ذلك، يعني يكون لك- مثلًا– قصورك، يكون لك مزارعك، بساتينك التي هي خاصة بك، القصور، المساكن الطيبة، مساكن طيبة من بناء الجنة، من بناء الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في سعتها، في تكوينها، في شكلها، في جمالها؛ من الذهب، من الفضة، من اللؤلؤ، من الزبرجد، من الياقوت، من تلك الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، من الذهب والفضة…الخ. ولكن مع ذلك عالم الجنة عالمٌ واسع، يعني: فيه ما يخصك، والبقية أيضًا أينما ذهبت الفواكه أمامك، الأنهار: من اللبن، من العسل، من الخمر (خمر الجنة)، من الماء غير الآسنٍ، غير الملوث، الماء النقي، المشروبات المتنوعة، المتنزهات الواسعة في الجنة، العالم كله عالم من المتنزهات، كله عالمٌ مبهج، فيه كل الرغبات، تتوفر كل الطلبات، وداخل ذلك لكل مؤمن: {وَلِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} في سورة الرحمن، يتحدث عن كلا الجنتين بأوصاف معينة، {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}، فِيهِمَا، فِيهِمَا… يقول بعد ذلك: {وَمِن دونِهِما جَنَّتانِ} [الرحمن: الآية62]، يعني: إضافة إليهما- كذلك- جنتان أقرب إلى قصره، وهكذا في كلٍ منهما تتوفر كل أنواع الفواكه، كل أنواع الثمار، الأنهار، العيون الفوارة، العيون الجارية، المشاهد المبهجة…الخ.
فيما يتعلق بالشراب في الجنة، أنهار- كما ذكر- أنهار من الماء، من اللبن، من العسل، من الخمر…الخ. عيون جارية، عيون فوارة، وكذلك مشروبات أخرى {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} [المطففين: الآية25]، هذا يوفر لهم حتى في ساحة المحشر، وبالتأكيد في الجنة، الرحيق: نوعٌ من شراب أهل الجنة، لذيذٌ جدًّا جدًّا، في غاية اللذة، والمذاق، والفائدة، والمتعة النفسية، {مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: من الآية25-26]، هذه تقدم لهم (عُلَب) معلبات في الجنة، يفتحونها ويشربونها في أوقات معينة، ولكن الغطاء بالمسك، نفس الغطاء، ليس كما في الدنيا غطاء من الحديد، أو النحاس، أو نحو ذلك . {خِتَامُهُ مِسْكٌ}.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان: 17-18]، هناك عيون في داخل الجنة لها أسماء خاصة، يتميز شرابها بلذة عجيبة جدًّا، ومذاق ونكهة متميزة للغاية، مثل هذا الشراب، من عينٍ تسمى (سلسبيلًا)، وهناك عين أخرى تسمى (تسنيم)، وعيون.. الله أعلم كم أصنافها وكم أنواعها.
يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: من الآية21]، وهذا من أنواع الشراب. يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: الآية23]، هذا نوع من شراب الجنة، ومن خمرها اللذيذ جدًّا، إلى درجة أنه قال عنه: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا}، طبعًا لن يكون هذا نزاعًا ساخنًا، إنما إقبالهم عليه لملذته العجيبة، ويروقهم جدًّا، هذا على مستوى الشراب، في مقابل أهل النار الذين شرابهم: من الصديد المتعفن، من القيح، من الحميم، الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء -والعياذ بالله-.
وذللت قطوفها دانية!
يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: الآية22]، أنواع الفواكه، أنواع اللحوم، كل أنواع الثمار، {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، كل أنواع الفواكه، {مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} على مستوى البستان الذي يتبعك…الخ.
يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة: الآية32]، لا حصر لها ولا عد، أنواع متعددة جدًّا، في عالم الدنيا اليوم الكثير من الناس، الكثير من الأسر لا يعرفون الفاكهة، لا تصل إليهم الفاكهة أصلًا، والبعض يصل إليهم الرديء من الفاكهة، والبعض القليل، والبعض في حالة نادرة جدًّا، والإنسان يبقى سنوات ويرى فاكهة معينة يحصل على بعضٍ منها، وفي كثيرٍ من الأحيان تصل الفاكهة إلى السوق متضررة، المُزاَرِع قد عمل فيها عمله من أنواع الغازات، وأنواع المبيدات، والمكافحات الضارة حتى تصبح مصدرًا لكثيرٍ من الأمراض، والمشتري قد تنقَّل بها من وضع إلى وضع، ومن جو إلى جو، ومن ظروف إلى ظروف… ما تصل إلى المستهلك إلى وحالتها حالة، هذا إن وصلت، وإلا الكثير من الناس لا يصل إليهم شيء، أما هناك |لا|، الفاكهة الطازجة المتوفرة في كل مكان، عند قصرك، في أي مكان تنتقل إليه، الفواكه متوفرة، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: الآية23]، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: من الآية14]، فواكه هناك متوفرة دائمًا وطازجة، طريّة، يقتطفون في أي وقتٍ، أو تقطف لهم، بحسب رغبتهم، إذا أنت في رحلة، أنت خرجت تتمشى في الجنة سواءً في مزارعك، أو بساتينك، أو في عالم الجنة قدامك الفواكه، تريد أن تقطف لنفسك قطفت، وتدنو إليك، ومذللة لك، وبدون أي صعوبة، أو فهناك الخدم وهناك القائمون على رعايتك في ذلك العالم الذين يمكن أن يقتطفوا لك أو يوفروا لك ما ترغب به هناك.
ثم كذلك في الدنيا، مثلًا: قد يكون هناك تاجر- مثلًا– أو ملك، أو أمير يمتلك النقود والفلوس التي يستطيع بها أن يشتري أنواعًا كثيرة من الفواكه في الدنيا، ولكن لا تتأمن له كما قلنا طازجة متوفرة أشجارها في كل مكان، في عالم الدنيا أصلًا المناخ والبيئة لها تأثير بسنة الله وفطرته ونظامه للدنيا، أن ثمارًا معينة أو فواكه معينة تصلُح في بلد ولا تصلح في بلد آخر، يعني: لا يمكن أن يجتمع في بلد واحد في بستان واحد من كل أنواع الفواكه. لا؛ لأن هناك فواكه يناسبها –مثلًا– مناطق حارة، فواكه يناسبها مناطق باردة، فواكه يناسبها مناطق معتدلة، فواكه يناسبها مناخ جاف، فواكه يناسبها مناخ رطب، فواكه يناسبها مناخ معتدل، فواكه يناسبها تربة معينة، فواكه تناسبها تربة أخرى…الخ. أما في الجنة يتوفر ذلك، فيمكن أن يتوفر في البستان الواحد من كل أصناف الفواكه، وزوجان، يعني: نوعان، من كل أنواع الفواكه، فيتوفر لك بشكلٍ طازج ما ترغب به، هذا في الدنيا غير متاح حتى لأي تاجر، أو أي ملك، أو أي أمير، أو أي أحد من زعماء الخليج أو غيرهم.
هناك {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: الآية55]، في الدنيا البعض قد يتوفر له نسبة لا بأس بها من الفواكه، ولكن لأنه يعاني من مرض معين مثلًا، لا تناسبه فاكهة، أو مرض آخر تضره فاكهة معينة، وممنوع عليه طبيًا أن يتناول فاكهة كذا وفاكهة كذا وفاكهة كذا؛ لأن فيها أضرارًا معينة، أما في الجنة ما هناك أي ضرر من أي فاكهة، في عالم الجنة أي فاكهة، {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ}، ما هناك استثناءات، تلك الفاكهة يمكن أن تضر بصحتك، يمكن أن تؤثِّر عليك، (آمِنِينَ): آمنين من مضرتها، من أضرارها على المستوى الصحي.
المأكولات على أرقى المستويات
وهكذا هو عالم الجنة، كل المأكولات متوفرة فيه، كثيرٌ من الناس في هذه الدنيا يعصي الله بشهوة البطن (جحنان) يريد أن يأكل بأي ثمن، حتى ولو من الحرام، فيخسر الوصول إلى ذلك النعيم الدائم والأبدي، البعض من الناس الوجبات الدسمة جرَّته إلى أن يقف في صف الباطل، في صف الطاغوت، مع الظالمين، مع المجرمين، وخسر ما كان سيأكل في عالم الجنة للأبد ومتوفرًا على أرقى مستوى، وعلى نحوٍ واسعٍ وعظيم، ثم يكون مصيره في النار الزقوم، لربما لو، يعني الله أعلم سيكون هناك ملاعق في النار أو ملاعق جهنمية، أم لا، يعني: لربما قطرة واحدة من طعام الزقوم ينسى بها أكثر أهل الدنيا ترفًا، من كان في هذه الدنيا امتلك المال والثروة الطائلة، وفتح لنفسه المجال أن يأكل وأن يشرب من كل ما ترغب به نفسه، بحسب أمواله وثرواته، وما عنده حلال ولا عنده حرام، ولا عنده… قطرة واحدة من الزقوم ستنسيه كل ما قد تنعم به من طعام وشراب في هذه الدنيا، جرعة واحدة من الصديد الحميم الذي يغلي، فشربه الإنسان وتجرعه -والعياذ بالله- في النار، تنسيه كل ما كان قد شربه في هذه الدنيا، من كل ما كان قد لَذَّ له وطاب له في هذه الحياة، البعض ما كان عنده لا حلال ولا حرام، ما أعجبه شربه، فيخسر الإنسان، يخسر خسارة كبيرة جدًّا.
في طريق الله ستصل إلى النعيم العظيم الذي هو أرقى وأسمى وأعظم وأكبر من كل طموحاتك أصلًا، فوق مستوى رغبتك وطموحاتك، يسد احتياجك، رغباتك، يغطي طموحك وعاده الفائض، عاده زائد يعني نعمة.
الجنة.. ملابس وزينة أهلها!
عن ملابس أهل الجنة في الجنة، هذه الأشياء التي هي ذات أهمية عند الإنسان: طعامه، شرابه، سكنه، منطقته التي يقطن فيها، البيئة التي يعيش فيها…الخ. كل هذا كيف هو في الجنة؟ الملابس، الكثير من الناس يحرص على أن يحصل على الملابس الفاخرة، مع أن الكثير من بني البشر في ظل العالم الذي تزعَّمت فيه أمريكا وجماعة أمريكا في هذه الدنيا، فظلموا عباد الله، ونهبوا ثروات الشعوب، الكثير من الناس يعيشون حالة البؤس الشديد، البعض لا تتوفر لهم الملابس العادية إلا بمشقة، البعض إذا كان سيحصل في العام على ثوب جديد، سيعتبر هذه إيجابية كبيرة، البعض يشتري في هذه الدنيا من البالة، من الثياب المستعملة، والتي باعتها شعوب أخرى، من الشعوب المترفة، أو المرتاحة اقتصاديًا.
الملابس في الجنة متوفرة جدًّا ومن أرقى ما يمكن، يعني: ما لم يصل إلينا في هذه الدنيا، ما لا نعرفه، لربما الأغلبية من البشر لا تعرفه، من حرير الجنة، الحرير الطبيعي في هذه الدنيا هو أرقى نوع من الملابس، من حيث نعومته، تنسجه دودة القز، لا يحصل عليه إلا البعض من كبار المترفين في هذه الدنيا، من بعض التجار، وليس كل التجار، البعض من الملوك والأمراء والزعماء يمكن أن يحصلوا عليه، وبأثمان غالية جدًّا، وعلى مستوى محدود. أرقى وأغلى وأنعم وأجمل الملابس في الدنيا هو الحرير الطبيعي، وهو نادر الوجود- كما قلنا- وقليل جدًّا، حرير الجنة الذي هو أرقى من حرير الدنيا بما لا يقارن، حرير الدنيا لا يساوي شيئًا أصلًا، الحرير الطبيعي في الدنيا لا يساوي شيئًا بالمقارنة بينه وبين حرير الجنة، حرير الجنة متوفر جدًّا في الجنة، وملابسهم بكلها مصنوعةٌ منه، {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان: من الآية53]، {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: من الآية21] هذا هو حرير الجنة المتنوع، منه ما يسمى بالسندس في شكله، في جماله، في نسيجه، والإستبرق كذلك، ربما هناك تفاوت في الغلظ والرقة… في اعتبارات متعددة.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- يعني: ملابسهم كلها في الجنة من حرير الجنة الناعم جدًّا والجميل جدًّا، هذا على مستوى الملابس، فيزدهون في تلك الملابس ويذهبون ويجيئون، ملابس ناعمة، راقية، جميلة جدًّا، ليست ملابس ثقيلة، ولا خياطها وتفصيلها متعب، أو مقاسه لم يطابق، ولا أي مشكلة معهم فيها أبدًا.
الحلّي والزينة مع الملابس، ملابس الجنة تجمع بين النعومة والزينة، ناعمة، مريحة، وجميلة جدًّا، يتجملون بها مع ذلك الحلية {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}، يلبسون فيها الحلية، والرجال لهم أساور من ذهب، والبعض من فضة {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: من الآية21] في بعضها، الذهب، الفضة المزينة باللؤلؤ ليزيدها جمالًا؛ لأن اللؤلؤ له جماله في بياضه ونعومته أيضًا، فيلبسون الزينة. النساء في الجنة الله أعلم كيف هي زينتهن! ربما أكثر من الرجال، كما في الدنيا.
الحور والزفاف الميمون.. مبروك أولياء الله!
مع الملابس، الطعام، الشراب، المساكن…الخ. هناك أيضًا الحور العين، الحور العين في الجنة حديث القرآن عنهن حديثٌ واسع، وأول أوصافهن هو هذه، ولربما من بعد الوصول إلى الجنة تبدأ الأعراس في الجنة، في قصورها ومساكنها، يقول الله: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: من الآية54]، أوصاف الحور العين في الجنة، البعض منها هو هذه: (أوصاف عيونهن)، مما يؤخذ بعين الاعتبار في الجمال هو جمال العيون، جمال مؤثِّر وجذَّاب، معروفٌ في الدنيا جاذبية جمال العيون، الزوجات في الجنة من أهم ما يتمين به في جمالهن هو جمال العيون.
الحور، يقال أن معنى (الحَوَرْ) هو: صفاء عيونهن، من حيث أن الأبيض بياضٌ صافٍ وخالص، لا يشوبه حمرة، والسواد كذلك يبقى خالصًا، مع نفس العيون المفتحة الجميلة جدًّا، فوق مستوى خيال الإنسان، يقول الله عنهن أيضًا: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات: من الآية48]، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ): يختلف المفسرون في تفسيرها، البعض يقول: أن المقصود به أنهن لا ينظرن، ولا يفكرّن، ولا يلتفتن إلى غير أزواجهن، وهذه صفة جذابة جدًّا ومهمة للغاية، والبعض يقول: أن الطرف الذي فوق العين (هذا الغشاء) كذلك تُعبِّر الآية عن جماله.
الحور.. غاية الحُسْن وقمة الأخلاق
من الأوصاف قول الله تَعَالَى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: الآية58]، وهذا حديثٌ عن الحُمرة التي تشوب بياض الخد؛ لأنه يصف لونهن في بياضهن باللؤلؤ {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: الآية23]، واللؤلؤ هو غاية الصفاء والبياض، يقول في آية أخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: الآية49]؛ لأن البعض من الناس في الدنيا ما يعرف اللؤلؤ، لكن البيض معروف، بياض شديد، فإذا كان مكنونًا يعني: لم تصبه غُبره، ولم يتلوث بشيء، يبقى في بياضه الناصع الواضح جدًّا.
فمع ذلك البياض الأصلي، يعني في الدنيا هناك شغل وعمل كبير في عمليات التجميل، في توفير متطلبات التجميل: المساحيق، والمعجنات، والمساحيق، والمكياج، والمدري ماهو ذاك، والـ… كم يعني من أكبر الأسواق، والبضائع، والمنتجات، والمصانع، متجه نحو هذا الموضوع، موضوع الجمال والتجميل، موضوع مهم عند البشر، يركِّز عليه البشر، تركِّز عليه النساء، ويركِّز عليه الرجال أيضًا من أجل النساء، فمع الناس في الدنيا تعب وهم متجمِّلين، مصانع كثيرة جدًّا تصنع المكياج، المرهمات، المساحيق، وسائل وأدوات وإمكانات التجميل، عالم كبير في الدنيا.
هناك من أصل الخلقة، بياض ناصع جدًّا وصافٍ كاللؤلؤ، كالبيض المكنون، حُمْرة تكسو هذا البياض بدلًا عن المكياج، وبدلًا من تلك الوسائل والمساحيق، ما تحتاج إليها النساء في الجنة أبدًا، والحور المخلوقات في الجنة كذلك ما يحتجنن إليها، من أصل الخلقة {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}، الياقوت في حمرته الصافية جدًّا والجميلة جدًّا، المرجان كذلك، فيما يكون على الخد، على جزءٍ من الخد. هذا بالنسبة للون، اللون الأصلي من دون تكلّف، من دون عمليات ومساحيق وشغل وعمل ومكياج ومدري ايش.
يقول الله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: الآية70]، في خيام الجنة المصنوعة والمكوَّنة من اللؤلؤ، ومن الزُمرد، ومن الأنواع الأخرى {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}، وهذا من أوصاف الحور في الجنة، خيراتٌ في أخلاقهن، ما يتميز به نساء أهل الجنة والحور في الجنة: جمالٌ راقٍ جدًّا في الشكل، وأخلاق عالية، وهذا شيء عظيم جدًّا؛ لأنه في الدنيا البعض من النساء تكون جميلة، ولكن لجمالها هي مدللـة وشايفة حالها- حسب التعبير المحلي- (عسره، وإلا منخطة)، وإلا أخلاقها متعبة، إما إن فيها حالة شديدة من الانفعال، أو حالة كسل، أو حالة… أي صفة، يعني: ما تجتمع من كل الجوانب، قليلٌ من النساء من يجتمع لها جمال في شكلها، في خلقها، ومعه أخلاق عالية جدًّا، ودين، واهتمام بالزوج، وتواضع، وعناية به من كل الجوانب…الخ.
أما هناك جمعن بين الأخلاق الراقية جدًّا، (خَيْرَاتٌ): ذوات خير في أخلاقهن، في معاملاتهن، في نفسياتهن، في كل ما يتصل بذلك، سلوكها، أخلاقها، نفسيتها، معاملتها…الخ. (خَيْرَاتٌ)، (حِسَانٌ): حُسن الجمال، حُسن اللون، حُسن الرشاقة، حُسنٌ في الخلق، في التكوين، فجمعنَ بين المسألتين، هذا جانب يمثِّل جاذبية كبيرة جدًّا.
عربًا أترابًا
يقول الله عنهن أيضًا: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة: الآية37]، (عُرُباً): يعني مُتَوَدِّدَات ومُتَحَبِّبَات إلى أزواجهن، أخلاقها راقية جدًّا، ما هي عسرة، ما هي جافية، ما هي معرضة، ما هي با تعامل زوجها بجفاء، أو تعامله بإساءة، أو بقلة احترام، أو بقلة توقير، أو بقسوة عليه. لا، أبدًا، دائمة التودد، اللطف، حسن التعامل مع زوجها، ترغِّبه أيضًا، تمثِّل جاذبية مستمرة في تعاملها معه، راقية جدًّا. (أَتْرَاباً): لأنهن متعددات، فبالتالي هنَّ متكافئات، ومتقاربات في مستوى الجمال، وفي مستوى الشكل والعمر، بمعنى: ما هو وحدة منهن عجوز، والأخرى شابة، با يترك صاحب الجنة العجوز ما عاد يبدي عليها، وينجذب للشابة ما عاد يشتي إلا عندها. لا، وذيك قد هي كبيرة جدًّا، وذيك عادها صغيرة جدًّا… لا، متقاربات، أيضًا بينهن نِدِّيَّة في الجمال، ما تلك جميلة مثلًا، والأخرى حالتها حاله يعني مسكينة؛ فينجذب نحو تلك ويترك الأخرى، هُنَّ في نِدِّيَّة ، ولو أنهُنَّ قد يكنَّ مختلفات، لكن كلٌ لها شخصيتها، لها جمالها، لها ميزتها، لها… وتلك الأخرى- أيضًا– لها شخصيتها، لها جمالها، لها ميزاتها… وتلك الأخرى كذلك، إن ذهب إلى قصره في الجنة، في جانب من جوانب الجنة (عالم هناك)، أمامه في تلك الجهة من جهات الجنة مثلًا عالم كبير جدًّا، يعني: افترض لو أنك في الدنيا، مثلًا: معك في كل قارة في الدنيا سكن، معك بساتين، معك زوجة، ومعك في قارة أخرى كذلك، أو على مستوى دول، مثلًا: في دولة كذا، أو أقطار: قُطر كذا، أو مناطق… عالم الجنة عالم واسع جدًّا.
تذهب إلى مزرعة لك في جهة من جهات الجنة، معك فيها خيمة، معك فيها من الحور العين، معك فيها الخدم، معك فيها وسائل الحياة كاملة، تذهب إلى جهة أخرى من جهات الجنة، بلاد بعيدة جدًّا في الجنة معك فيها كذلك، عالم غير مُمِل يعني، تتنقل تذهب تجئ، معك هناك: القصر، المزارع، الزوجة…الخ. معك هناك كذلك، معك هناك كذلك، وحياة أبدية، يعني: تتسع لكل هذا. {عُرُباً أَتْرَاباً}، فيدخل في مفهوم (أَتْرَاباً) ما يتعلق بالندِّيَّة بينهن في: مستوى الجمال، والشخصية…الخ.
بيئة راقية ورفاهية عالية
تتوفر للإنسان كل هذه الأشياء، وفي بيئة الجنة الراقية، الجنة بكلها بيئة ومناخ راقٍ جدًّا، يعني: في الدنيا بعض البلدان تراها- مثلًا– في الصور، أو في مشاهد التلفاز خضراء جدًّا جدًّا، ويتوفر فيها المياه، لكن فيها مشكلة الحرارة الشديدة، بلاد حارة للغاية، وفيها أوبئة، وفيها حيوانات خطيرة على حياتك، وفيها يعني… وأكثر الأشجار التي تشاهدها جميلة ليس فيها أشجار فواكه ولا ثمار للأكل (للطعام)، نقص من كل جانب، أما هناك كل شيء متوفر على أرقى مستوى، والبيئة نفسها بيئة معتدلة ومريحة جدًّا، لا أذية الشمس، ولا أذية البرد، يقول الله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} [الإنسان: من الآية13]، فلا أذية البرد القارص الذي يؤذي، ولا حرارة الشمس مزعجة هناك، راحة، في كل مكان في الجنة بيئة ملائمة وراحة، وما هناك أي متاعب، في الدنيا قد تتوفر لك: الثروة، الإمكانات، المتطلبات، الرغبات، ولكن يضاف إلى ذلك عبء المسؤولية، أنت تاجر، أنت مشغول بتجارتك: تتابع أعمالك، تتابع تجارتك، تحمل هَمَّ بيعك وشرائك، تتابع… عندك هموم، عندك مشاكل، عندك انشغالات كثيرة، أو مزارع كبيرة، عندك مزارع ضخمة، فأنت مشغول بمتابعتها، ومتابعة شئونها، ومتطلباتها، واحتياجاتها، والانتباه لها… تحمل همًّا، أما هناك مع كل ما يعطيك الله، ويتوفر لك، ويتهيأ لك، ما هناك شغل، ما هناك تعب، أنت مرتاح.
ولهذا كثيرًا ما ورد في القرآن الكريم {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان: من الآية13]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: من الآية20]، آيات كثيرة تُعبِّر هذا التعبير، جالسين مرتاحين، ما عندهم هَمّ، ولا شغل، ولا مشاكل، ولا متاعب، ولا مسؤوليات، ولا أعباء، ولا ما يشغلهم أبدًا، ما عاد عندك أي تعب أبدًا يزعجك ويشغلك، مرتاحين على الأرائك، عندهم الكنب والكراسي الفاخرة جدًّا التي يجلسون عليها.
ومخدومين لتوفير متطلباتهم واحتياجاتهم {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} [الطور: الآية24]، يطوفون عليهم، حتى ما تحتاج تقوم لحاجة من حاجاتك، لو عرضت لك حاجة، أو رغبت في شيءٍ ما، هو يطوف عليك بين كل آونة، بين كل فترة وأخرى [إذا حاجة، إذا خدمة، إذا أنت تريد شيئًا]، وخدم على مستوى راقي جدًّا {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ}، خدم على درجة راقية من النظافة، والجمال، يُقرّب لك ما يقرّب لك من طعام أو شراب وهو نظيف جدًّا، كـ اللُؤْلُؤٌ المَّكْنُونٌ، ودورهم هو الخدمة هذه: توفير متطلبات طعام، شراب، أي خدمات تريد أن يأتي بها إليك.
طمأنينة كاملة وسعادة بلا حدود
مع النعيم المادي في توفير كل المتطلبات والملذَّات التي يريدها الإنسان من: أكل، شراب، طعام، الزوجة… كل هذا النعيم، هناك أيضًا الراحة النفسية، ما يشوب هذا النعيم أي منغِّصات؛ لأنه هناك لا هَمّ، ولا حزن، ولا مرض، ولا غَمّ، ولا هرم، ولا وجع، ولا أي منغصات أبدًا، يحكي الله عن أهل الجنة في الجنة: {وَقَالُوا الحمد لله} هم أدركوا نعمة الراحة النفسية، يعني لاحظوها أيضًا هم، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: من الآية34]، حزن الدنيا راح وانتهى، كم يحمل الإنسان في هذه الدنيا من أحزان، كم وكم!! لكن هناك خلاص، راحت، وصل الإنسان ذاك النعيم، تلك السعادة، طار حزن الدنيا وانتهى أبدًا، ولا حزن يأتي آخر أبدًا، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، هم أدركوا هذه النعمة: نعمة الراحة النفسية، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ}، دار الاستقرار، ما هناك ما يزعجك، ما هناك ما يشكِّل خطورة عليك، حيث أنت تسكن تضطر إلى الانتقال، ما هناك نازحين، وما هناك مشاكل، ولا هناك مسؤوليات أيضًا تستدعي أن يذهب الإنسان ويجيء، لا مسؤوليات معيشية، ولا غيرها، {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: الآية35]، لا هناك أعمال متعبة، نحتاج نقوم بها فنتعب للقيام بها، ولا لغوب، أي آثار الجهد النفسي والعملي، بعد الكد، نتيجة الجهد النفسي والعملي والبدني الذي يصيب الإنسان، ما بش، مرتاحين على طول على طول، ما عاد بش أي أعباء هناك ولا متاعب أبدًا نهائيًا.
عالم المحبة والطيبة والسلوك الراقي
وتعيش في هذه الحياة السعيدة، الهنيئة، المتوفر فيها كل الرغبات والمتطلبات، وأنت في واقع محترم ومكرَّم، ما أحد يؤذيك، ما أحد يسيء إليك، ما أحد يخدش كرامتك، ما أحد يسيء إليك بما يجرح مشاعرك، ولا حتى كلمة مزعجة تجرح مشاعرك، ذلك العالم هو عالم السلام الحقيقي، حتى الكلمة المزعجة، أو الكلمة المؤذية، أو الكلمة الجارحة لمشاعرك ما تسمعها {لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: الآية11]، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً} [مريم: من الآية62]، في الدنيا هذه كم تسمع وتسمع مما يزعجك، مما يؤذيك، مما يسيء إليك، مما يجرح مشاعرك، مما مما… كم وكم وكم، يعني: ملان الدنيا، وأما هذا الزمن تطوَّرت كل هذه الأشياء، الوسائل الإعلامية، ووسائل التواصل، ووسائل كثيرة تُستغل للغو. هناك لا يوجد الكلام المسيء: لا كلام منحط، لا كلام بذيء، لا كلام فاحش، لا كلام فيه افتراء، لا كلام ظالم، لا كلام… كل اللغو بكل أشكاله، هناك الكلام السليم الذي لا يجرح المشاعر، لا يسيء، لا يؤذي، لا يزعج، لا ولا… ولا أي شيء. والكلام الطيب، السليم، الراقي، النزيه، النظيف، قال الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: الآية24]، في معاملاتهم، في سلوكياتهم راقين، وطيبين، وطاهرين، ونظيفين، وسليمين، السلوكيات السيئة ما بش منها هناك في عالم الجنة أبدًا، العلاقة الودية هي السائدة بين أهل الجنة، ما هناك بين هذا وذاك لا غل، ولا حسد، ولا تنافس، ولا مطامع، ولا أي شيء، العلاقة السائدة هي الأخوة، وانعدام كل أشكال الغل والإحن {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: من الآية47]، (إِخْوَاناً): كلهم متآخين أهل الجنة، عالم أخوة، وأخوة راقية أخوة أهل الجنة، ماهي مثل أخوة البعض في الدنيا، قال: [بين أرحمك مثل أخي]، يعني: أُحبُك كأخي، [قالوا: كيف كانت محبته لأخوه]، قالو: [كان بيكرهه كره شديد]. هناك لا، أخوة راقية جدًّا، {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}، لهم مجالس للاجتماعات الأخوية والودية، التي يتذاكرون فيها أحوال ما هم فيه، ويرتاحون باللقاء مع بعضهم البعض، ويشربون من شراب الجنة.
اجتماع الشمل ومجاورة الأنبياء والصديقين
مع هذا أيضًا يجمع الله شمل الأسر المؤمنة، منذ ساحة المحشر، وفي الجنة، الأسرة المؤمنة الصالحة المتقية الذين جمعتهم رابطة التقوى، فكانوا متقين في هذه الدنيا، يجتمع شملهم في الجنة على الخير، على السعادة، في تلك الحياة الطيبة والهنيئة، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: من الآية21]، يعني: من دون نقص، لا في عمل الآباء، ولا في عمل الأبناء، كذلك في دعاء الملائكة المذكور في القرآن الكريم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر: من الآية8]، وكذلك يشير إلى هذا في سورة الرعد.
مع هذا وذاك، ومن أعظم ما في الجنة، ومن أكرم ما في الجنة، هو مجاورة أنبياء الله والصفوة الطاهرة من عباد الله، نجاور في الجنة- نسأل الله أن يدخلنا الجنة- أنبياء الله، نعيش معهم، يمكن أن تلقاهم، أن تلتقي بهم، أن تزورهم، أن تتشرف وتنعُم بالزيارة لهم، والسماع لهم، واللقاء بهم، والمشاهدة لهم، هذه تعتبر من أعظم ما في الجنة، عندما تذهب إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما تشاهد نبي الله إبراهيم، نبي الله موسى، أنبياء عظماء، كذلك من الصديقين، يمكنك في الجنة تشاهد الإمام علي، تلتقي بالإمام علي، تلتقي بالإمام الحسن، بالإمام الحسين، بأولياء الله والصفوة الطاهرة من عباد الله في كل عصر وزمن، وهذه نعمة عظيمة، نسأل الله أن يجعلنا مجاورين لهم، وأن يمُنَّ علينا بلقائهم، ويجمعنا بهم في مستقر رحمته، يقول الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} [النساء: الآية69]، ما أعظمها من رفقة، وما أحسنها من رفقة.
فنعم عقبى الدار
مع هذا وذاك، مع النعيم المادي، والسعادة، والراحة، والحياة الهنيئة والطيبة، هناك كل هذا يأتي في جوٍ من التكريم كلهُ، كل هذا النعيم، منذ استقبالك في أبواب الجنة تحظى بالتكريم والاحترام من الملائكة، كل أشكال الحياة في الجنة، حتى الخدمة، حتى كل ما يقدّم لك، ما تصل إليه في جوٍ من التكريم، وهذا شيء عظيم جدًّا، والإحساس بأن هذه ضيافة الله، كرامة الله، رحمة الله، فضلٌ من الله، هذا كلهُ يبقى يعني مع كل ما تصل إليه وتنعم به هناك، التكريم هناك هو لدرجة أن يزورك الملائكة، أن يدخلوا إليك إلى بيتك، إلى قصرك، إلى مستقرك في الجنة، يقول الله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: من الآية23]، زيارات ووفود إلى كل واحد من أهل الجنة، كلٌ له زواره من ملائكة الله، للترحيب، للاستقبال، للتكريم {سَلَامٌ عَلَيْكُم}، هذه أجواء الاستقبال والترحيب {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: من الآية24]، هذه كانت عاقبة صبركم في الدنيا، يوم صبرتم في جهادكم، يوم صبرتم في عنائكم، يوم صبرتم في أعمالكم الصالحة، يوم صبرتم وحبستم النفس عن شهواتها وأطماعها وأهوائها، التي هي كانت معصية…الخ. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وصلتم إلى أحسن عاقبة، إلى أحسن دار (دار الجنة).
{وَنُودُواْ} في الجنة، وهم يذهبون بين بساتينها، ومروجها، وينابيعها، وأنهارها، {أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: من الآية43]، شوفوا عملكم، نتيجته الطيبة، نتيجته العظيمة ما وصلتهم إليه، شرف كبير.
ومع هذا النعيم والتكريم العظيم ليسوا قلقين من إمكانية موتهم، يقول لك: [الحياة هناك مؤقتة]. |لا|، أو إمكانية إخراجهم {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: الآية48]، باقين على طول، حالين للأبد، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: من الآية56]، ما هو هام إنه [صح هناك نعيم وراحة]، وبعدين با يزداد الانسجام، ما عاد بده يفارق ذلك النعيم، لكنه سيموت، ما بش موت {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا} في الجنة {الْمَوْتَ}، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وتكررت هذه (خَالِدِينَ فِيهَا) (خَالِدِينَ فِيهَا) في القرآن الكريم.
وأيضًا لا ملل، مع طول الحياة هناك، وعدم انقطاعها نهائيًا ما بش ملل؛ لأن الجنة عالم واسع جدًّا جدًّا جدًّا، يمكن تمضي في كل بقعة فترة طويلة جدًّا، وتأتي بقعة أخرى فيها جو جديد من الحياة، شكل جديد، نِعَم إضافية، تجدد للعطاء الإلهي، ومع ذلك يقول الله عنها: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: الآية108]، ما يشتوا يرحلوا أبدًا، ويتجدد النعيم في كل مرحلة، في كل فترة تأتي أشياء جديدة من كرم الله، من رحمة الله، من عطاء الله، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: من الآية17].
لكي نفوز بالجنة
ومع هذا وذاك، يلتقون، يتذاكرون أجواء الدنيا، كيف وصلوا إلى ذلك النعيم، كيف فازوا ذلك الفوز العظيم، يقول الله عن اجتماعاتهم في الجنة وتذاكرهم لما وصلوا إليه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور: الآية25]، [كيف وصلنا إلى هذا النعيم، إلى الجنة؟ كيف نجونا من عذاب الله، كيف فزنا هذا الفوز؟]، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أيام الدنيا {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26-28]، جانبان أساسيان جدًّا: الإشفاق في الدنيا، الخوف من الله، والحذر من المعصية؛ نتج عنه طاعة وإنابة، استمرار في طاعة الله، اتجاه نحو العمل، توبة عند الزلل، رجوع إلى الله عند المعصية، حذر من الإصرار، انتباه… وهكذا. ومع هذا الخوف من الله الذي ابتنى عليه عمل صالح، وتوبة من الزلل والمعاصي، وتخلص من المعاصي والمظالم؛ قابل ذلك أيضًا التجاء إلى الله، اعتماد على الله، تضرع، دعاء، وهذان جانبان أساسيان للنجاة، لا تتكل على نفسك، ولا تركن على نفسك، ولا على عملك، كن متوجهًا دائمًا إلى الله بالدعاء، أرجُ رحمته، توكل عليه، أمّل فضله، ركِّز بشكل كبير دائم ومستمر على الدعاء، أوراد، أوقات، بشكل أو بآخر، عندما تعيش ظروفًا معينة، حالة مستمرة أنت عليها، وبرنامج مستقر ومستمر ومتواصل أنت فيه من الدعاء، في أوقات، في أوراد…الخ. بتضرع من أعماق نفسك، بمشاعرك، بإقبال من قلبك إلى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- واهتمام بالعمل، وتنمية لحالة الخوف من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ورجوع إلى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-؛ ينتج عن ذلك فوز بالجنة، أمنٌ من عذاب الله، إلى جانب ذلك النعيم العظيم الأمن من عذاب الله ومن سخطه ومن ناره، وهذه نعمة كبيرة جدًّا أنهم حظوا بالسلامة من عذاب الله، ووصلوا إلى ذلك النعيم العظيم.
الله يدعونا إلى هذا النعيم، فتح لنا آفاقه، الأعمال التي نصل بها إلى هذا النعيم العظيم هي في وسعنا {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: من الآية286]، والإنسان في هذه الحياة إذا لم يتجه في طريق الجنة، هو يتجه إلى طريق النار، يتعب فيها، يعاني فيها، يخسر فيها، يضحِّي فيها، يعاني فيها العناء الشديد، وهي طريق العسرة أصلًا، أما طريق الجنة فهي الطريق الميسرة التي يعطي الله فيها العون، والإنسان أصلًا ليس معنى ذلك أنه إذا سار وراء شهواته ورغباته في هذا الدنيا أنه ينال كل ما يريد. |لا|، يحصل في هذه الدنيا على حلوها ومرها، ولا يسلم من عنائها أبدًا، طريق الجنة أفضل، أيسر، خيرٌ للإنسان، والأفضل للإنسان أن يستجيب لدعوة الله، فيسارع ليتجه، نحن في هذا الشهر الكريم من المهم أن يرسِّخ الإنسان فيه إيمانه بوعد الله ووعيده، الجنة تجلٍ لرحمة الله وكرمه ورحمة وفضله.
نسأل الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- أن يوفقنا لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته، ونسأله أن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، ويعيننا بعونه.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛