المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 25 رمضان 1439هـ
مع عباد الرحمن في سورة الفرقان
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
بدايةً- وقبل أن ندخل في موضوع المحاضرة- نبارك لشعبنا اليمني المسلم العزيز التوفيق الإلهي العظيم- في يوم الجمعة بالأمس- في الخروج والحضور الفاعل والواسع والمشرِّف في مناسبة يوم القدس العالمي، وقد عبَّر شعبنا العزيز بهذا الحضور الفاعل الكبير عن رصيده الإيماني، عن هويته، عن انتمائه، وعن أصالة هذا الانتماء، يمن الإيمان الذي يتحرك بدافع الإيمان، اليمن الذي ينطلق الأحرار والحرائر فيه بدافع الإيمان، وبمكارم الأخلاق، الأخلاق الإيمانية: العزة، والإباء، والحرية، والكرامة، والوفاء، تلك المعاني العظيمة التي بات يفتقدها الكثير في عالم اليوم، فنحمد الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى على هذا التوفيق، ونسأله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب أجركم، وأن يبارك فيكم، وأن يكتب لكم ذلك في خير ما يكتبه لكم من الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك، ونسأله أن يوفقنا وإياكم على الدوام، الإنسان دائمًا بحاجة إلى توفيق الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وإلى ألطافه، وإلى هدايته، وإلى رعايته.
نستمر في محاضرة اليوم، ونحن نتأمل في الآيات القرآنية المباركة وهي تقدِّم لنا النموذج الإسلامي الراقي، النموذج الذي يجب أن يحرص كل مسلم أن ينطبق على واقعه في هذه الحياة؛ لأن للإسلام نموذجه المتميز، الإسلام يقدِّم للبشرية كيف ينبغي أن تكون هي من خلال ما يقدِّمه ويفترضه في الإنسان المسلم الذي يتجه إلى الالتزام بكتاب الله، وبالاقتداء برسول الله “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”.
يقول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[الفرقان: الآية63]، آيات مباركة في سورة الفرقان يقدِّم فيها القرآن الكريم مجموعة من المواصفات المهمة والالتزامات لهذه الفئة المؤمنة، الراقية، التي تجسدت في واقع حياتها، وتجلت في سلوكياتها وأعمالها وتصرفاتها أخلاق هذا الدين، تعاليم هذا الدين، توجيهات الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وهذا دورٌ أساسيٌ للإنسان المسلم، لصلاح حياته، ولصلاح حياة المجتمع الإسلامي بكله، وليكون واقعًا جذَّابًا أمام بقية البشر، ليعرفوا من خلاله قيمة هذا الدين، وأثر هذا الدين في نفسية الإنسان، في سلوكه، في تصرفاته، في أعماله، في التزاماته في الحياة.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} يتحدث القرآن دائمًا عن الفئة المؤمنة الصادقة, ويصفهم بتعبيرات متعددة، وكلها تنطبق عليهم باعتبار معين، فهم المؤمنون، مثلما تقدَّم، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ…}[المؤمنون: 1-2] إلى آخر الآيات. وهذا باعتبار الإيمان، وهم المتقون، مثلما يأتي الحديث عنهم كثيرًا تحت هذا العنوان وبهذه الصفة؛ لأن التقوى هي ثمرة الإيمان، وهي لازمةٌ للإيمان، وهي- في نفس الوقت- صفة مهمة وعظيمة وجذَّابة، ونتاج مهم للإيمان، أثرها على حياة الإنسان، ولصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.
عباد الرحمن وحركتهم في الحياة
هنا يتحدث عنهم بهذه الصفة العظيمة والمميزة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} أولياؤه المختصون بتعبيد أنفسهم له، الذين التزموا بهديه وتعليماته، يتصفون بمواصفات معينة، وكما قلنا في كل عرض قرآني يقدِّم نماذج رئيسية من الأعمال تدل على ما وراءها، ويلزم من الالتزام بها تحقيق بقية الصفات، لكن لإبراز أهمية الصفات في عرض معين، مثلًا: في سورة (المؤمنون) يقدِّم عرضًا لصفات رئيسية؛ ليبرزها، وهي تدل على ما وراءها، ولا تتحقق إلا ويكتمل معها بقية الصفات، في أول سورة البقرة يعرض- كذلك– نماذج رئيسية معينة من الصفات المهمة جدًّا، وأحيانًا في كل عرض له أيضًا سياق، له دلالة بارزة بأكثر من السياق الآخر، تجد في صفات المتقين في أول سورة البقرة أن السِّمة البارزة هي طبيعة علاقتهم بالقرآن الكريم، بهدى الله، بالكتاب الإلهي، وهي صفات إيمانية وصفات تقوى، وفي سورة (المؤمنون) صفات تعبِّر بشكل رئيسي جدًّا عن الحالة الإيمانية التي يعيشونها، نجد هنا في هذه المواصفات ما يعبِّر عن تعبيد أنفسهم لله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، فيما هم عليه من هذا الشعور وهذا الإحساس الذي تجلى وظهر في سلوكهم، وفي أعمالهم، وفي تصرفاتهم.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}، هذا الجانب من صفات المؤمنين، من صفات المتقين، من صفات عباد الله الأولياء الأتقياء، هو جانب رئيسي جدًّا، وهو يتصل بحركتهم في الحياة أنها سليمة من كل أشكال التكبر والخيلاء، وهذا جانب مهم، يحتاج المجتمع المسلم إلى هذه التربية، هو في أمسِّ الحاجة إلى هذه التربية، في حركتنا في الحياة، ونحن نذهب، ونحن نجيء، ونحن نمشي، ونحن نتحرك بين أوساط الناس، بين أوساط المجتمع، كيف ينبغي أن تكون حركتك هذه؟ حتى هذا الجانب السلوكي يركِّز عليه القرآن الكريم تركيزًا كبيرًا، كل حركات الإنسان هي تعبير عن نفسيته، كل حركات الإنسان، سلوكك يعبِّر عن نفسيتك، إذا كانت هذه النفسية نفسية صالحة، زكية، تكون تصرفاتك وأعمالك زكية، صالحة، إذا كانت نفسك مدنَّسة وتجذَّر فيها الخبث واللؤم يمتد ذلك إلى واقعك السلوكي، إلى تصرفاتك، إلى أعمالك “والعياذ بالله”.
ضبط الحالة النفسية أولاً
والله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى في هذه السورة سورة الفرقان، وفي سور أخرى، مثلما ورد في سورة الإسراء، ومثلما ورد- أيضًا– في سورة لقمان، ومثلما ورد في سور أخرى من القرآن الكريم، سور متعددة، ركَّز على ضبط الحالة النفسية أولًا، أن تكون مشاعرك أنت- كإنسان- نقية، نظيفة، سليمة من مشاعر التكبر، والغرور، والعجب بالنفس، والخيلاء، وهذا يتجه إلى معالجته كثير من النصوص القرآنية التي تعلِّم الإنسان حقيقته: أنك مخلوقٌ ضعيف، عاجز، جاهل، وأنك تحتاج- دائمًا- إلى رعاية الله، إلى لطف الله، إلى توفيق الله وهداية الله، وأنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله، وأنه لا توفيق لك إلا بالله، الذي عندك هو العجز، مخلوق عاجز، لا حول لك ولا قوة إلا بالله، ولا قدرة لك إلا بقدر ما يعطيك الله من القدرة، وما يهيئه لك، وما يمكِّنك فيه، وأنك جاهل، أخرجك من بطن أمك لا تعلم شيئًا على الإطلاق، {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}[النحل: من الآية78]، ثم لا تكسب من المعرفة في هذه الحياة- وبالذات المعارف الحقيقية- إلا بقدر ما يُهَيئ لك، يُنعم عليك، يمكِّنك، وإلا فقد تبقى جاهلًا: إما جهلًا بسيطًا، يعني: جهل مباشر بالأمور، ما عندك معرفة أصلًا. وإما جهلًا مركبًا، والجهل المركَّب أخطر من الجهل البسيط؛ لأن الجهل المركَّب هو جهلٌ بالشيء، وجهلٌ بأنك تجهل به، فأنت تتصور أنك تعرفه من خلال معلومات مغلوطة ونظرة مغلوطة، تتصور الشيء على خلاف ما هو عليه، عندك عقيدة في مسألة معينة أنها كذا وكذا وكذا، وليست كذلك، فهاهنا جهلان: جهل بأصل الشيء، وجهلٌ- أيضًا– بأنك تجهل؛ لأنك تتصور أنك تعرف، وهذا جهل الطبقة المثقفة والجهل لدى بعض العلماء يعني، والجهل لدى المثقفين، هو الجهل المركَّب، يقول الشاعر معلقًا على ذلك:
قال حمار الحكيم يومًا: لو أنصف الدهر كنت أركب ***** لأني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركَّب.
فالإنسان عندما يكون جاهلًا وجاهلًا بجهله، مشكلة هذه، يتعصب بنظرة مغلوطة ولفهم مغلوط عن الأمور. لا تغلط في معرفة حقيقة نفسك، هذا أكبر الجهل: الإنسان الذي لا يعرف نفسه، إذا أنت لا تعرف نفسك، ولا تعرف حقيقتك، ولا تعرف أصل خلقك وفطرتك، وعندك نظرة مغلوطة تجاه نفسك، خرجت بك عن الطور الإنساني، عن التواضع الإنساني، تصور نفسك مخلوقًا رهيبًا، جبارًا، عظيمًا، وتشعر بالخيلاء، والكبر، والفخر، والغرور، والعجب بالنفس، وتنسى الله، تنسى نعمته، تنسى فضله، تنسى أنك إن حصلت واكتسبت، أو توفَّر لك شيءٌ من الصفات الحميدة، أو من المواصفات الكمالية البشرية، فإنما كان بتوفيق الله، إنما كان بعطاء الله، إنما كان بفضل الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، فتتجه إلى الله شاكرًا حامدًا، تأمل منه المزيد من فضله، سواءً النعم المعنوية: إذا أعطاك الله ذكاءً، إذا أعطاك الله معرفةً، إذا أعطاك الله أي شيء معنوي، وهو جانب مهم جدًّا، أو الأمور المادية: إذا مكَّنك الله، نعم مادية معينة، ثروة، مال، إمكانات معينة، أو وجاهة في أوساط الناس، وهي تعود إلى الجانب المعنوي، تدرك نعمة الله عليك، وأنك- في أصلك- أنت العجز، أنت الضعف، أنت الجهل، أنت اللاشيء، إنما بالله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وبما أعطاك الله، لا تغتر بنفسك، لا تتكبر، لا تتكبر، لا تشعر بأنك بت الأكبر من الآخرين، الأعلى فوق الآخرين، الأعظم من الآخرين، الأهم من الآخرين، ثم تتجه نظرتك نحو الآخرين بالاحتقار، والاستخفاف، والاستهانة بهم، تفتخر على ذلك الإنسان لماذا؟ لأنك أثرى منه، هو فقير، وأنت غني، هذه جريمة خطيرة جدًّا، غناك، أو ثروتك لا تمثِّل قيمة لك في الاعتبارات الإلهية، يمكن أن يكون ذلك الفقير أعلى منزلةً عند الله منك، أرقى رتبةً عند الله منك، أعظم شأنًا عند الله منك، وأن يكون مستقره في الجنة أعظم منك، إن لم تكن إلى النار “والعياذ بالله”.
مقياس العظمة في الميزان الإلهي
لا تفتخر بنسبك على الآخرين، بأي نسب تنتمي إليه، ربما ذاك الذي ترى في نسبه أنه أدنى من نسبك يكون هو عند الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى أعلى منزلة، وأقرب إلى الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وأقرب إلى أنبيائه وأوليائه، وربما يكون مستقره في الجنة خيرٌ منك، إن لم تكن في النار، وربما يمتلك من الرصيد الأخلاقي والقيمي والمعرفي بأكثر مما تمتلك أنت، فلا ينفعك نسبك بشيء، وأنت مفلس في علاقتك بالله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، ولا تمتلك ذلك الرصيد الأخلاقي والقيمي والمعرفي والعملي، (قِيمَةُ كُلِّ امرِئٍ مَا يُحسِنُه) قال الإمام علي “عليه السلام”، لن تكون قيمتك في نسبك، ولن تكون قيمتك في ثروتك، ولن تكون قيمتك بأيٍ من هذه الاعتبارات.
إذا أنت تفتخر على الآخر باعتبار منصبك: أن لديك منصبًا معينًا، إما منصب في الدولة: [أنت وزير، أنت رئيس، أنت مسؤول، أنت مدير، أنت بأي صفة، أنت ضابط، أنت في أي موقع من مواقع المسؤولية]، لا تتكبر على الآخرين؛ لأن الذي أنت فيه هو عبارة عن مسؤولية تكون فيها خادمًا لأولئك الآخرين، هذا هو حقيقة دورك، المسؤوليات كلها في هذه الحياة نكون فيها في موقع الخدمة، نقدِّم الخدمة للآخرين، وليس للاستعلاء والتكبر والغطرسة عليهم، حتى المقام الديني لا يسمح الله ولا يأذن الله أن يكون وسيلة للتكبر على الآخرين، أو الغرور والعجب: أنت إمام مسجد، أنت خطيب، أنت إنسان معروف بالتدين والالتزام، أنت بصفة عالم ديني، أنت بصفة… بأي صفةٍ أنت، المقام الديني هو مقام خضوع لله، وتواضع لعباده، وإحسان إلى عباده، وتقدير لقيمة الناس. أعظم الناس دينًا هو الأكثر إدراكًا لقيمة المجتمع الإنساني، لقيمة هذا الإنسان، هو الأكثر احترامًا للناس، أكثر اهتمامًا بأمر الناس، الأحرص على صلاح الناس، وعلى عزة الناس، وعلى كرامتهم.
في المقامات الدينية، أرقى مقام، أعظم مقام، أعلى مقام، هو مقام مَنْ، وهو المستوى الذي وصل إليه مَنْ؟ رسول الله محمد “صلى الله وسلم عليه وعلى آله” هذا أعلى مقام: رسول الله محمد بن عبد الله، مقام الرسالة الذي هو أعلى مقام في المسؤوليات الدينية والمقامات الدينية، وهو خاتم المرسلين، وسيد المرسلين، ثم هو في أعلى مقام في هذا السلم: سلَّم الرسالة، سلَّم الكمال، في موقعه في الرسالة وفي موقعه الإيماني، أعلى مقام وصل إليه البشر في مكارم أخلاقه، في سموه كإنسان، في ما يمتلك من قيم وأخلاق، في رصيده العملي وتأثيره في الساحة، وتأثيره الإيجابي، هو رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” في منزلته عند الله، في كمالاته: أذكى إنسان هو رسول الله محمد، أعظم إنسان في شجاعته، في قوته، في كرمه، في كمال نفسه، في كل عناصر السمو، وكل مكارم الأخلاق، وكل حميد الصفات، هو رسول الله محمد “صلوات الله عليه وعلى آله”، كيف قال الله له؟ {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر: من الآية88]، اخفض جناحك، كن متواضعًا لهم، كل لَيِّن الجانب إليهم، هو في نفسه كيف كان؟ يقول الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران: من الآية159]، ما معنى إذا أنت مثلًا بصفة عالم، أو متدين، تأتي إلى الآخرين مترفعًا عليهم، متعاظمًا عليهم، متساميًا فوقهم، تسيء إليهم، تحتقرهم، تعتبر الناس لا شيء أمامك. |لا|.
كيف كانت الروحية والسلوك لدى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” تجاه الناس؟ {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: الآية128]، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) الرأفة، الرحمة، الحنان، التواضع، يعز عليه ويؤلمه أن يلحق بكم العنت، أن تلحق بكم المشقة، أن يلحق بكم الضرر.
فأيُّ مقام أنت فيه، وأيُّ نعمة أعطاك الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، لا ينبغي أن يكون أثرها في نفسك حالة من الكبرياء والغرور والعجب بالنفس، أحرص أولًا أن تدرك إنما هي نعمة من الله، وأن ذلك كان بفضلٍ من الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وإلا فأنت العجز، وأنت الضعف، وأنت الجهل، وأنت اللاشيء، بدون الله أنت لا شيء.
ثم لتعي جيدًا أن كل ما أعطاك الله يترتب عليه مسؤوليات: أعطاك ذكاءً، هذا يترتب عليه مسؤولية؛ أعطاك مالًا، هذا يترتب عليه مسؤولية؛ أعطاك وجاهه، هذا يترتب عليه مسؤولية؛ أعطاك كذا… كل نعم الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى هي نعم يترتب عليها مسؤوليات، ليست عبثية، ما أعطاك هكذا من دون شيء، بل لتكون مسؤولًا بما أعطاك، كيف تتحرك بما أعطاك فيما فيه مصلحة لك، فيما فيه خير لك، وفيما فيه مصلحة للأمة من حولك، للمؤمنين من حولك، وتتجه بما أعطاك لتفعِّله بشكل صحيح، وفي الاتجاه الصحيح، وليس في معصية الله، وليس في التكبر على عباد الله، هذه مسألة مهمة جدًّا، بل في غاية الأهمية.
ثم أن تدرك- أيضًا- نقاط ضعفك، جوانب القصور لديك؛ لأن البعض لم يعد يلتفت- مثلًا– إلى أنه مهما كان، مهما امتلك، مهما بلغ، مهما تحقق له، لا يزال لدى الإنسان دائمًا ودائمًا ودائمًا نقاط ضعف، جوانب قصور، جوانب خلل، جوانب تقصير، ليعرف حقيقة نفسه، ومقدار نفسه، فلا يتكبر على الآخرين.
ليكن تعاملك معبراً عن كريم أخلاقك
ثم في حركتك، حتى في مشيك في الأرض: أسلوب التعامل مع الآخرين والحركة بين الآخرين كيف تكون معبِّرة عن كريم أخلاقك، عن صفاتك الطيبة والحسنة، لا تتكبر على الآخرين، مثلًا: الآن زمن السيارات، أولًا– قبل أن ندخل في مسألة السيارات- أسلوبك في المشي: لا تتعاظم، أسلوبك في التخاطب والتعامل مع الآخرين: لا تتعالى عليهم، {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}[لقمان: الآية18]، إذا أحد بيتحدث معك، ويتكلم معك، ويتبادل الحديث معك، تجي أنت تشيح بوجهك عنه هكذا وتلقِّي له خدك، أقبل إليه، من يتخاطب معك، من يتحدث معك أقبل إليه، التفت إليه، هذا نهى الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى في سورة لقمان: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}، الخد: شق الوجه (هذا خد وهذا خد)، لا تصعره، لا تُمِل هكذا وتشيح بوجهك عنه، حضرتك مسؤول، أو تاجر، أو… متضيخم، يعني: بتقدر أيش قد أنت، ما عاد تتنازل، بن تعتبر الذي يتحدث إليك إنسان مسكين، وأنت عسر وضخم، إما أنك وإما أنك، تفتخر بمقام، أو بمنصب، أو بأي شيء، فلا تلتفت إليه، وهو يتحدث معك.
أسلوبك في الحركة، في المشي: لا تجنِّح، تحاول تفتح يديك وتطلع صدرك زيادة وترفع رأسك إلى الأعلى إلى حد ما عاد تبصر القاع وأنت متضيخم، خليك يا أخي، ناظر إلى الأرض، أنت من هذه الأرض، وأنت في هذه الأرض، لا تتحول إلى إنسان في أسلوبه وفي حركته وتتبختر في مشيك، حالة من التبختر والخيلاء تعبِّر فيها عن أنك شيءٌ عجيب في هذه الدنيا. لا، هذا غير لائق أبدًا، امشِ بتواضع بشكل طبيعي.
واقصد في مشيك
كذلك في حركة السيارات وما أدراك ما حركة السيارات!، إذا أنت إما إن معك سيارة ضخمة، لا تنخّط بسيارتك الضخمة الآخر موديل، والا التي هي من نوعية فارهة، وغالية الثمن، وو…الخ. أو أنك ذو منصب معين، أو مقام معين، فتتحرك بشكل يعبِّر عن حالة من النخيط والتكبر والغرور، تدخل السوق، والا الأماكن المزدحمة، أو المدينة، أو الشارع المزدحم، والناس يتطايرون من قدامك، لا تصدمهم، حضرتك مسرع وبشكل… يعني: السلوكيات هذه هي معروفة، السلوكيات التي تعبِّر عن حالة تكبر، أو حالة غرور، أو حالة ازدهاء بالنفس وبالإمكانات، ولا مبالاة بالناس، وعسارة عليهم، ومدري أيش… هذه الحركات سيئة جدًّا، من أيٍ كانت.
لاحظوا، نحن نفترض في حركه الإنسان في الحياة، سواءً هو في سيارة، أو وهو يمشي، أن يكون طبيعيًا في ذلك، يمشي بشكل طبيعي، أو بحسب ما يقتضيه الحال، مثلًا: نتفهم سرعة إنسان أسرع؛ لأنه معه مريض، أو معه جريح، وهو يسعفه، عنده حالة طارئة، وبالتالي هو حريص أن يبادر لإسعاف هذا المريض، أو هذا الجريح، حتى المقصود في النص القرآني ليس المقصود- مثلًا– أنك قد با تتبهطل في حركتك، وتتمسكن… لا، الحالة الطبيعية، مثلما قال الله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، حالة طبيعية، امشِ بشكل طبيعي، لا إنك تتبختر، أو بشكل عنيف وبشكل يعبِّر عن غرور، أو ازدهاء، أو كبرياء، أو احتقار للناس؛ ولا أنك بشكل متمسكن، ومتبهطل، وحالتك حالة، من يراك يرحمك، والا يكرَهك، يقول: [ويش مال ذا يعني كذا متخيضع زيادة]، الحركة الطبيعية التي هي: قصد، عدل في الأمور، وبمقتضى الحال، صحيح- مثلًا– حالة قصف، حالة حرب، الذي عليه قصف مضطر يسابق، أكيد، ما هو سابر يمشي هونًا وبسكينة وتأني حتى يجيله قذيفة هو وسيارته.
فما يقتضيه الحال، هذا له حكمه، ما يقتضيه الحال: حال مرض، حال سرعة من أجل مبادرة لإنجاز شيء، وليست سرعة جنونية؛ لأن السرعة الجنونية تسبب حوادث سير، وحوادث مؤلمة جدًّا، ومأساوية، وكارثية، كم في العالم يحصل من حالة وفيات نتيجة السرعة الجنونية وغير المتزنة، والإفراط هذا أثَّر على الناس.
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}[الفرقان: من الآية63]، يعني: بسكينة ووقار، وبشكل سليم من أشكال التكبر والخيلاء والغرور، ونجد في قول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى في سورة الإسراء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ}[الإسراء: من الآية37]، لا تتعيسر يعني وتتضيخم وتتكبر، أنت ما أنت خازق للدنيا هذه، أيش با تجي عليه لو تدعس بقوة لأمكن أن تكتسر رجلك والدنيا سليمة، اعرف حقيقتك، اعرف قدرك أنك إنسان مسكين وقدراتك محدودة.
{وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}، ما يكون حجمك مثل حجم الجبل، تتضيخم وتتعيسر، أحيانًا بعض الجبال بيجي عرضها فيه السكان عندنا في اليمن، يقول لك: [جبل رازح، جبل كذا، جبل…] 150 ألف نسمة ساكنين في جبل واحد ما قد غطوه، عاد فيه مساحات فراغ، وكل إنسان كيف بيكون عرض الجبل؟ صغير جدًّا، الإنسان واهم ومغرور عندما يتعاظم نفسه، ينسى حقيقته أنه كائن ضعيف، محدود الحال في كل شيء: في طاقته، في قوته، في إدراكه، في فهمه، في كل ما فيه، ربما البعض إذا مرض عرف حقيقة نفسه، أو في ظروف معينة، أو أجواء معينة.
يقول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى أيضًا في سورة لقمان: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: الآية19]، كذلك هذه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ): امشِ بقصد، بعدل، بما يقتضيه الحال، بما يتناسب، وليس بحالة غرور وحالة استكبار.
ولهذا الجميع معنيون، يعني لاحظوا، كل الناس بحاجة إلى هذه التوجيهات: في أي عمل، في أي مستوى، في أي دور أنت في الحياة، أيضًا الذين يتحركون في الأعمال الأمنية، الذين لهم انتساب في العمل العسكري، وعادةً بيكونوا قد جفوا شوية (نشفوا)، معنيون- أيضًا– بذلك، المسؤول ذي بيقّدر أن قد هي حالة روتينية للمسؤولين، يتعيس. |لا|، الكل بحاجة إلى هذه التوجيه: (التواضع)، {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}، فحركتهم، معاملتهم متزنة بالسكينة، بالوقار، خالية من أشكال: التكبر، والخيلاء، والغرور، والاحتقار للناس، وعدم المبالاة بالناس…الخ.
نبرة الصوت حسب المقام
{وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، حتى في الصوت، حتى في نبرة الصوت وأنت تتبادل الحديث مع الآخرين، تتحدث إلى شخص، تناقش معه موضوعًا معينًا، لا تجي ترفع صوتك عليه بحالة من الاستفزاز، وفعلًا يكون هذا الأسلوب مستفزًا، إذا أنت بتتحدث مع واحد وقام يرفع صوته عليك، ويتكلم بصوت مرتفع، ويهزئك، والا يعاشلك، والا… هذا الإنسان يستفزك عادةً، صوتك يبقى طبيعي يعني، وكذلك مثلما الحركة، الصوت بما يقتضيه المقام والحال، يعني: المؤذن مطلوب يرفع صوته؛ لأن المقام مقام رفع الصوت أصلًا، الخطيب في مقامات معينة والا نصوص معينة يريد أن يعطيها صوتًا يساعد على إيصالها إلى أذهان الناس، ويشتي لأجل لا يرقدوا وهو خافت صوته وموطي زيادة، يكونوا متنبهين، هذا مقام مناسب، أو أي مقام يناسب ذلك: في المعركة واحد ينادي المقاتلين، يحرضهم، يرفع معنوياتهم، أو يحتاج إلى إيصال الصوت، لكن المقام الذي هو مقام تكبر، أو بغير مناسبة؛ لأن الحمير ترفع أصواتها لغير مناسبة، {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، صوت رفيع جدًّا، ولغير مناسبة، مزعج، فالإنسان- كذلك– يكون متنبهًا لهذه السلوكيات. [يعرض على السيد هذا النص من التيسير وهو تفسير للآية ((فأما الحمار فهو يحتاجه لأنه إذا ضاع على صاحبه في مرتع دله عليه صوته، وكذا إذا أخافه سبع نهق فنبه صاحبه ليدفع عنه، وكذا ينبهه ليعلفه أو يسقيه، وقد يكون في مكان مغلق ليس فيه منفذ فلولا قوّة صوته لما سمعه صاحبه، وغير ذلك من فوائده وقد أعطاه أحكم الحاكمين فلا يذم عليه ولأنه لا يعقل بحيث لا ينهق إلا في الحالات التي يحتاج فيها إلى الصوت الرفيع.]
وأعرض عن الجاهلين
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[الفرقان: من الآية63]، أسلوبهم في التخاطب مع الآخرين والحديث مع الآخرين، مثلًا: الجهلة من الناس غير متزنين في كلامهم، في تعبيراتهم، قد يتكلم معك بالكلام المستفز، بجهالته، بانعدام أخلاقه، بانعدام وعيه، قد يتخاطب معك بكلام مستفز، بكلام سلبي، بكلام مُسيء، بكلام جارح، فهم يترفعون عن الدخول في المهاترات، ما هو مشغول أنه يدخل في مهاترات مع كل من هب ودب، ومن لقيه، والا هبا له كلمة، بدّلها بعشر، والا أساء إليه بكلام جارح، بدله بأجرح…وهكذا. |لا|، هم يتصفون بحالة من: التحمل، والانضباط، وكظم الغيظ، والعفو، والترفع بكرامة عن الدخول في مهاترات وسباب وأشياء سيئة، ما هو با يتجه إلى من تكلم بإساءة إليه بالسب مثلًا، فيبادله بالسب، ويستخدم- كمثل ما تكلم ذاك- يستخدم كلمات بذيئة، كلمات تافهة، كلمات فاحشة… نزيهون عن ذلك، في تخاطبهم نزيهون عن الكلام الفاحش، عن الكلام البذيء، ومترفعون عن الدخول في مهاترات مع من هب ودب، با يتجاهل بعض السفهاء، بعض الناس، يقول: [اتركه، اتركه، هذا]، ويتكلم بكلام: إما كلام سليم، أو كلام فيه نصح، أو كلام يلقم ذلك الحجر، بدلًا من أن ينشغل به:
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخيرٍ من إجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن أني *** عييت عن الجواب وما عييت
الكثير من الناس يعني كم سيدخل الإنسان في مشاكل يومية، لو يبني على أنه حين ما يذهب- مثلًا– إلى السوق، حين ما يذهب إلى الشارع… إذا بقي منشغلًا بأن يتفاعل عمليًا مع كل كلمة، مع كل إساءة، مع كل حركة، مع الكل… كم يغرق الإنسان.
نكتفي بهذا المقدار في حديث اليوم، ونكمل- إن شاء الله- في محاضرة قادمة.
نسأل الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا إلى أن نهتدي بكتابه، إلى أن نتمسك بكتابه، إلى أن نلتزم بتعليماته وتوجيهاته، إلى أن نطبِّق في واقع حياتنا هذه التوجيهات، وتتحول إلى صفات لازمة، مستمرة نعيشها، ونسأله تعالى أن ينصرنا بنصره في مواجهة المعتدين، والظالمين، المجرمين، المستكبرين، وأن يرحم شهداءنا، وأن يشفي جرحانا، وأن يعافي مرضانا، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛