المحاضرة الرمضانية الحادية عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 13 رمضان 1439هـ
القرآن الكريم الطريق والبرنامج الذي تتحقق لنا به تقوى الله
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
في الحديث عن التقوى على ضوء الآيات القرآنية المباركة، نرى مسائل مهمة، وجوانب أساسية، لا بُدَّ من ملاحظتها والالتفات إليها، ولكي تتحقق التقوى للإنسان، تقوى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- لا بُدَّ من العودة إلى القرآن الكريم، لنتعرف من خلال القرآن الكريم كيف تتحقق لنا التقوى، التي بها الوقاية لأنفسها من عذاب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- والتي بها الوقاية لأنفسنا من كل ما فُطِرت عليه نفوسنا، من الحرص على الوقاية منه: الوقاية من الشر، الوقاية من الخزي، الوقاية من الضلال، الوقاية من كل ما يسبب الهوان في الدنيا والآخرة، الوقاية من الشرور والمصائب التي يتسبب بها الإنسان من خلال أعماله السيئة.
وإذا عدنا إلى القرآن الكريم نجد أن هناك أسسًا مهمة تقوم عليها التقوى، ومن أول ما نلحظه في مسألة التقوى، وكيف تتحقق للإنسان: أنه لا بُدَّ لنا أن نعرف الطريق والبرنامج المشروع الذي تتحقق لنا به تقوى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- لا بُدَّ لنا من رؤية نعرف من خلالها ماذا علينا أن نعمل، لكي تتحقق لنا التقوى، وما ينبغي لنا أن نترك، ما ينبغي علينا أن نتجنب، ما ينبغي علينا أن نتوقى، لكي تتحقق لنا الوقاية من كل ما نسعى للوقاية منه: كيف نسلم من الضلال، كيف نسلم من الشر، كيف نسلم من الخزي، كيف نسلم من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
ولأهمية التقوى للإنسان، ولأهمية التركيز عليها بشكلٍ أساسي، حتى تتحول إلى برنامج حياة، ومشروع حياة، ومسار حياة؛ نجد الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- يصف عباده المؤمنين، المفلحين، الفائزين بالمتقين، بالمتقين؛ لأنها حالة لا بُدَّ أن يلازمها الإنسان، لا بُدَّ أن يرتبط بها كمسار حياة، عمل معين، أو مخالفة معينة، أو خطيئة معينة يمكن أن تجلب على هذا الإنسان شرًا كبيرًا وخطرًا عظيمًا، يمكن أن تكون سبب هلاك لهذا الإنسان، أو سبب شقاء لهذا الإنسان، أوَلم تكن خطيئة واحدة لأبينا آدم -عليه السلام- سببًا لشقائه- آنذاك- وخروجه من الجنة التي كان ينعم فيها، ويرتاح فيها، ووُفرت له فيها كل أسباب السعادة والاستقرار ومتطلبات الحياة الأساسية، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119]، فكيف بجنة الخلد، جنة الخلد التي وُعِد بها مَنْ؟ المتقون.
قرأنا في الآيات الماضية أن أغلب الآيات القرآنية التي تحدثت عن الجنة، وعن رضوان الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- الذي هو أكبر وأعظم من الجنة، وما الجنة إلا من نتائجه، من تجلياته، من امتداداته، كل هذا ارتبط بالتقوى، وتعلَّق الوعد الإلهي به (بالتقوى) {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: الآية63]، {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: من الآية133]، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: من الآية15]، وهكذا آيات كثيرة ربطت المسألة بالتقوى، فما أعظم التقوى، وما أهم التقوى، وما أهم أن يسعى الإنسان بكل جهده، وبالاعتماد على الله، وبالاستعانة بالله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- لكي يكون واحدًا من عباد الله المتقين.
في القرآن الكريم نتحدث- خلال عدة محاضرات إن شاء الله- عن جملة من المواصفات القرآنية الأساسية التي يصف الله بها عباده المتقين، والمتقون هم المؤمنون، يعني لا يتحقق أن يكون الإنسان من المؤمنين، المؤمنين الصادقين، المؤمنين الذين وُعِدُوا من الله بكل تلك الوعود الإلهية العظيمة، أن يحظوا برعاية عظيمة من الله في الدنيا والآخرة، بالفوز، بالفلاح، بالنجاة، بالسعادة، بالخير، بكل ما وَعَدَ الله به، هي حالة متلازمة: الإيمان والتقوى.
القرآن المنهل الصافي لاكتساب التقوى
يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه الكريم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1]، البرنامج الذي يعود إليه المتقون، والمرجع الثقافي والفكري الذي ينطلقون من خلاله في هذه الحياة، في أعمالهم، في مواقفهم، في التزاماتهم، في ولاءاتهم، برنامج حياتهم يأخذونه من أين؟ هل من المفكِّر الفلاني، هناك رؤى في الدنيا، هناك نُظُم حياة في الدنيا، هناك الكثير من أبناء البشر يعتمدون في مسيرة حياتهم، في اتجاهاتهم بكلها على رؤية لفيلسوف معين، أو مفكِّر معين، كل اتجاهات الناس في هذه الحياة لها مدارسها، لها مفكِّروها، لها المفلسفون لها، ينطلقون من خلالها معتمدين لها في هذه الحياة.
المتقون اعتمادهم بالأساس هو على كتاب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- يمثِّل القرآن الكريم المرجعية والوثيقة الأساسية التي يعتمدون عليها بشكلٍ رئيسي، وبهذا تتحقق التقوى، لا يمكن أن تتحقق التقوى إلا بهذا، فالله يقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، (ذَلِكَ الْكِتَابُ): هذه إشارة إلى علو شأن القرآن, في المعاني والبيان والبديع تستخدم الإشارة للبعيد أحيانًا، (ذَلِكَ)، وبهذا الأسلوب، {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، الإشارة إلى القرآن الكريم في علو شأنه من جوانب متعددة، أولًا: أنه كتاب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- فله هذه العظمة وهذه الأهمية وهذه القيمة، لكونه كتاب هداية، كتاب عظيم، أنه من الله، كلماته، هديه، ضمَّنه من علمه، ضمَّنه توجيهاته الرحيمة والحكيمة والهادية والنافعة والمفيدة، وضمَّنه أيضًا الحقائق التي لا ريب فيها، ولا شك فيها، ولا ريب أبدًا، ولا قلق أبدًا، ولا شك نهائيًا في أن القرآن كتاب الله بحروفه ومضمونه، كلماته -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- وفي أنه ضمَّن هذا الكتاب من علمه، من حكمته، وجعله أيضًا تجليًا لرحمته فيما ضمَّنه وفيما فيه.
القرآن.. الحق المحض والحكمة البالغة
فالقرآن ننظر إليه هذه النظرة: أنه كتاب الله، من علمه، من حكمته، من رحمته، من هديه، من نوره، وفي نفس الوقت أن الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- جعله على مستوًى عظيم جدًّا في الحكمة، في الإتقان، في الإبداع، في الحق، فهو كتاب حق {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: من الآية42]، هذه قيمة كبيرة للقرآن.
في الدنيا هذه كم كتب، كم رؤى، كم مدارس، كم مشاريع قدِّمت للبشرية لتعتمد عليها في حياتها، لتتمسك بها، في مواقفها، في نظامها في الحياة، في شؤونها في الحياة، كم فيها من الباطل، كم فيها من الأخطاء، كم فيها من الجهل، كم فيها من الحسابات الخاطئة والاعتبارات الخاطئة والأفكار الخاطئة؟! أما القرآن فهو حقٌ محضٌ خالصٌ لا يشوبه الباطل بأي نسبة معينة، لا بنسبة (1 %)، ولا (5 %)، ولا (10 %)، ولا (20 %)، كثيرٌ جدًّا في هذه الدنيا من الكتب والرؤى والدراسات والأفكار والأبحاث قد تصل نسبة الباطل في بعضها إلى (90 %)، أو (100 %)، أو (50 %)، أو (30 %)، أو (40 %)، مخلط يعني، نسبة ضئيلة من الحق أو الحقيقة، ونسبة كثيرة جدًّا من الباطل، من الأخطاء، من الأمور التي لا أساس لها، لا تعتبر حقًا بأي اعتبار من الاعتبارات، لا من حيث مطابقتها للواقع والحقيقة، ولا من حيث سلامتها من كل أشكال الظلم، أو الفساد، أو غير ذلك…
فالقرآن الكريم هو الحق المحض، حَقٌ كما قال الله عنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، بأي شكلٍ من الأشكال، وهو الحكمة؛ لأن توجيهاته، تعليماته، الأوامر التي فيه من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- التوجيهات التي فيه من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- مع كونها حق، هي حكمة، كلٌ منها فيما يرتبط به من زمن، من ظروف، من أعمال، من مواقف، مما تستدعيه الظروف والمراحل، يتطابق ويتناسب، بحيث يكون هو أفضل ما ينبغي أن يعتمده الإنسان أو يعتمد عليه، أفضل ما ينبغي أن يعتمد عليه الإنسان، إما من حيث أنه- مثلًا– يناسب هذا الإنسان، أو يمثِّل حلًا لهذا الإنسان، مع كونه حقاً؛ لأن القرآن الكريم توجيهاته هادية، تلامس ظروف هذا الإنسان، وواقع هذا الإنسان، ومتطلبات حياة هذا الإنسان، فهو أحسن ما يُعتمد عليه، في المواقف يكون هو أحسن موقف، في الأعمال أحسن عمل، في التصرفات أحسن تصرف، بكل الاعتبارات: اعتبار الخير لهذا الإنسان، اعتبار الحل لهذا الإنسان، وكل الاعتبارات التي يمكن أن يتطرق إليها الإنسان بأي شكلٍ من الأشكال.
هذه مسألة مهمة جدًّا، القرآن الكريم له عظمة وقيمة أنه من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ومن إبداعه، من علمه، من حكمته، برحمته، وهو أرحم الراحمين، والذي- بحكم رحمته لنا- يريد ما فيه الخير لنا، ما فيه السعادة لنا، ما فيه الفوز، ما فيه السمو لنا، ما فيه الكرامة لنا، ما فيه العزة لنا، ما فيه كل الاعتبارات المهمة والعظيمة والمفيدة والنافعة والمشرِّفة لهذا الإنسان، موجودة في هذا الكتاب، في تعليماته، في هديه، فيما فيه من المعارف، فيما فيه أيضًا من الحقائق الواسعة التي يستفيد الإنسان وينتفع من معرفته بها، ثم تتحقق له الوقاية.
القرآن الكريم بعظمته، بأهميته، بقيمته، باعتباره الحق الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، وباعتباره صلة وصل مع الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- صلة بالله، وصل مع الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- لا ينفصل عن الله في تقديره، الأخذ به يساعد على أن تحظى بمعونة إلهية، أن تحظى برعاية إلهية، بتأييد إلهي، بتوفيق إلهي، بهداية إلهية، فالتعامل مع القرآن لا يأتي كحالة منفصلة عن الله، كتاب نعكف عليه هناك، ونرى أن تعليماته تعليمات هناك منفصلة لا تربطنا بالله. بل على العكس؛ هي تربطنا بالله، الأخذ بها يترتب عليه تدخّل إلهي في شؤون حياتنا، بالرعاية، بالهداية، بالرحمة، بالتوفيق، بالمعونة، بالدفع فيما يدفع الله عنا، وفيما يعطينا، فيما يهيئه لنا، فيما يقدِّم لنا من عطاءات نفسية ومعنوية وروحية ومادية وبكل الأشكال، فهذا يعطي قيمة عظيمة جدًّا جدًّا جدًّا للقرآن الكريم، أنه في أصله فيما تضمنه: هدى، خير، حكمة، رحمة، حق، حقائق…الخ. وفي أنه يمثِّل صلة بالله، الأخذ به يتيح لك هذه الرعاية الإلهية الواسعة: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: من الآية16]، تحظى بالبركة من الله {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: من الآية29]، مبارك، البركة هذه مسألة مهمة بالنسبة للإنسان، أن يحظى من الله برعاية وبركات في كل شؤون حياته: البركة في النفس، بركة في الفهم، البركة في الجوانب النفسية في الحياة بكلها.
{لاَ رَيْبَ فِيهِ}، لاَ رَيْبَ فِيهِ أبدًا، لا ريب في أنه من الله، ولا ريب في أيٍ من حقائقه، كلها حقائق مؤكَّدة، موثوقة، متطابقة مع الواقع، لا التباس في ذلك، ولا نقص أبدًا في أي حقيقة من حقائقه، القرآن تامٌ في عدله، تامٌ في صدقه، تامٌ في حقيقته.
علاقة المتقين بالقرآن الكريم
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} علاقة المتقين في القرآن الكريم هي علاقة الاهتداء، والاهتداء فيه فهم, معه تأثر والتزام، معه تفاعل والتزام عملي، وهذه مسألة من أهم المسائل على الإطلاق؛ لأن الكثير من الناس لم ترتقِ علاقتهم بالقرآن إلى درجة الاهتداء به في شؤون حياتهم، في مواقفهم، في ولاءاتهم، في مسيرتهم في الحياة، البعض علاقتهم بالقرآن علاقة محدودة جدًّا، مثلًا: التزام ببعضٍ من الأمور التي تضمَّنها، ضمن ما ورد في القرآن أن نصلي يصلي، ضمن ما ورد في القرآن أن نصوم يصوم، ضمن ما ورد في القرآن أن نزكي البعض يزكي والبعض عندهم مشكلة في الزكاة.
البعض في جوانب عملية معينة، يعني البعض قد يتجه في أمور حياته، مواقفه، توجهاته في هذه الحياة بنسبة (1 %)، والباقي من غير القرآن ومن غير ما يتطابق مع القرآن، إما وفق المزاج النفسي وهوى النفس، أو بالتبعية العمياء لآخرين ليس لهم هذه العلاقة بالقرآن (علاقة الاهتداء بالقرآن)، أصلًا لم يتخذوا قرارهم في أن يعودوا في كل شؤون حياتهم ومواقفهم وتوجهاتهم ومسيرتهم في هذه الحياة لينطلقوا على أساس الإتباع للقرآن.
البعض لم يصل يعني- بكل وضوح– إلى اتخاذ قرار بهذا الشأن، وبديهيًا- وبشكل طبيعي- هو يبني على أنه ينطلق في هذه الحياة من خلال منطلقات أخرى، رؤى أخرى، توجهات أخرى، أفكار أخرى، يعني التوجه من أساسه لم يحصل بعد عند البعض، ما قد عنده توجه ما بلا أنه عاد عنده غلط، والا ما قد سبرت المسألة، والا ما قد نظمها، والا عاد عنده التباسات، أصلًا ما قد فكَّر في الموضوع واتخذ قرارًا بهذا الشأن.
العلاقة الصحيحة للأمة، لنا- كمسلمين– بالقرآن الكريم؛ كيف ينبغي أن تكون؟ هي هذه: علاقة المتقين بالقرآن، علاقة الاهتداء بالقرآن.
علاقة المتقين بالقرآن علاقة اهتداء، فهم يعودون إليه ليسترشدوا به، ليتنوروا به، ليستبصروا به، يتخذون الموقف الذي يوجه إليه القرآن، يلتزمون بالعمل الذي يأمر به الله في القرآن، ينتهون عما نهى الله عنه في القرآن، يعتبرون التوجيهات الواردة في القرآن توجيهات مُلزِمة في كل ما ألزمت به، كل الأوامر في القرآن يعتبرونها- بالنسبة لهم- إلزامية، النواهي والمحرمات في القرآن يعتبرونها- بالنسبة لهم- محرمة، يمتنعون عنها، إذا أخطئوا رجعوا، إذا خالفوا رجعوا، يعتبرون أنفسهم ملزمين، هذه قضية أساسية لا تتحقق التقوى إلا بها، وهناك تلازم بين الأمرين، يعني: لا يتحقق للإنسان أن يكون متقيًا إلا بالاهتداء بالقرآن، ولا يتحقق له أن يكون مهتديًا بالقرآن إلا بالتقوى؛ لأن البعض لهم علاقة غير علاقة تقوى بالقرآن الكريم، غير علاقة اهتداء.
العلاقة الخاطئة بالقرآن.. أشكال وأنواع
علاقة البعض بالقرآن الكريم علاقة النظرة إليه كوثيقة إلهية محترمة، ننظر إليها بقدرٍ من الاحترام الرمزي: [ما شاء الله، القرآن كتاب الله، كتاب عظيم محترم، الله يبارك فيه ويمسّح عليه، ما شاء الله ما شاء الله، ويطرحه في الكوة، وسابر هنياك، هذا كتاب الله]، لكن عمليًا، في مواقفك، رؤيتك حتى تفكيرك، نظرتك، هذا القرآن كتاب مليء بالهداية الإلهية، نور الله، رؤيتك، تقييمك، نظرتك إلى الحياة، إلى الأحداث، مواقفك، هل تعتمد فيها على هذا الكتاب؟ قال: [|لا|، أنا انتمي إلى الحزب الفلاني، لنا رؤانا المعينة]، كيف هو موقفك، كيف هي رؤيتك، كيف هي اتجاهاتك في هذه الحياة، كيف أعمالك، تصرفاتك؟ يقول لك: [القرآن- يا أخي- ما شاء الله كتاب محترم، ما شاء الله، الله يبارك فيه] -ويمسح عليه، ويطرحه في الكوة- لكن لن ينظر إليه ككتاب هداية أبدًا يعتمد عليه كل هذا الاعتماد.
البعض لا بأس [نحن سنأخذ من القرآن، القرآن كتاب مهم، الله أمرنا في القرآن نصلي، وأمرنا… لكن أمرنا نجاهد، ما نشتي نجاهد؛ أمرنا ننفق، ما نشتي ننفق]، ولاءاتنا هل هي محكومة بهذا القرآن؟ |لا|، لها اعتبارات أخرى، لها نظرة أخرى، لها استراتيجية ثانية، مواقفنا هل تعتمد على هذا الكتاب؟ |لا|، المسألة ثانية، مدري ما هو ذاك…، ويحاول يخارج نفسه ويغالط نفسه.
البعض- ما شاء الله- اهتمام بالقرآن من حيث القراءة (الاهتمام اللفظي)، غير الاهتداء، الاهتمام اللفظي بالقرآن قراءة وتجويد، وعنده اهتمام بشكل رهيب جدًّا بالإدغام بغنة، والإدغام بلا غنة، والإخفاء، والقلقلة، والإظهار، ونبرات الصوت، وكل أحكام التجويد عمل على أن يتقنها جدًّا، وبذل جهدًا كبيرًا في ذلك، طبعًا هذه المسألة تحظى فعلًا يعني في أوساط الأمة، قطاعات كبيرة من أبناء الأمة تعطي اهتمامًا كبيرًا جدًّا جدًّا بتجويد القرآن، وتعطي عناية في الطبع، الآن مصاحف كثيرة تطبع في طبعات يراعى فيها التجويد في القرآن، وتعتمد فيها عملية التلوين؛ لتساعد الإنسان على إتقان قراءة القرآن، وتجويده، وترتيله، وهناك البعض أيضًا يُدخلون مسألة الصوت بعناية قصوى، وو…الخ.
ثم تأتي إلى كثيرٍ من هذه الفئات كيف هي؟ مثلًا الحركة الوهابية والنظام السعودي ممن برزوا في العالم الإسلامي على اهتمام كبير جدًّا بالطباعة للمصحف الشريف، وبالاهتمام اللفظي: القراءة، التجويد، الإدغام، وسيبذل جهدًا كبيرًا في أن يتقن قراءة: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: من الآية51]، ما شاء الله اهتم بالإدغام (فَإِنَّهُ)، وسيهتم بالصلة (فَإِنَّهُ)، وكل أحكام التجويد سيتقنها جيدًا، ولكنَّه مملوء من أخمص قدميه إلى قمة رأسه ولاءً لزعيمه الذي يتولى أمريكا ويتولى إسرائيل ولاءً مطلقًا، هو بعيد عن مضمون الآية القرآنية، هو اهتم بتجويدها، ولكنَّه لم يهتد بها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء}، المد المتصل سيهتم به، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، سيهتم بالمسألة ويبذل فيها اهتمامًا كبيرًا، هذه حالة مأساوية لدى الأمة الإسلامية، لا يمكن أن نضحك على الله، ثم تعمل مجمعًا لطباعة المصحف الشريف، تطبعه تطبعه تطبعه، (رُبّ قَارِئٍ لِلقُرآنِ وِالقُرآن يَلعَنُه)، هذا حديث عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وحديث واقعي، من الذين لعنهم الله في القرآن الكريم؟ ألم يلعن الظالمين؟ كم؟ ربما كثير من أبناء الأمة الإسلامية يتلو ما تيسَّر من القرآن الكريم وهو مصرّ على الاستمرار في الظلم، هو من ضمن الظالمين، كم يا ظالمين، وكم يا مواقف ظالمة، البعض من الناس في القرآن الكريم يتولَّى أعداء الأمة، وهذه خيانة، يتولَّى أمريكا ويتولَّى إسرائيل، وهذه خيانة كبيرة للأمة، وقضية خطيرة تصل في درجة خطورتها إلى مستوى قول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
لو أن الأمة تتخذ قرارًا حاسمًا بالاهتداء بالقرآن، والعودة إلى القرآن عودة صادقة نظيفة سليمة، أول مكسب سيتحقق- ولن يتم ذلك إلا بهذا- هو: فصل حالة التبعية لأعداء الأمة، كل الذين يبدون اهتمامًا بالتجويد والقراءة والطباعة والتلاوة للقرآن الكريم وهم في حالة من التبعية لأعداء الأمة، حالة من التبعية لأمريكا وإسرائيل، لليهود والنصارى (أمريكا وإسرائيل)، هؤلاء لا يمكن أبدًا أن يكونوا مهتدين بالقرآن الكريم على الإطلاق، لا يمكن أن يكونوا مهتدين بالقرآن الكريم، الاهتداء بالقرآن الكريم سيجعلك تحمل رؤية القرآن، نظرة القرآن، فكرة القرآن، موقف القرآن، هذا له أثر عليك في نفسك، في فكرك، في ثقافتك، في رؤيتك، في توجهك، في موقفك، في عملك، في ولائك، في مسيرتك في الحياة.
أما أسلوب المخادعة والأسلوب الرخيص التافه الذي هو من اتخاذ آيات الله هزوا، اهتمام لفظي، اهتمام شكلي (طباعة، وتجويد)، ومخالفة تامة، اتجاه في المواقف، في الولاءات، في الأعمال، في مسارات الحياة، في كل ما هو مهم في هذه الحياة وفق الرؤية الأمريكية، النظام السعودي يتحرك وفق الرؤية الأمريكية، ضمن الموقف الأمريكي، الإماراتي يفعل كذلك، من يرتبطون بالنظام السعودي، سواءً حركات إسلامية، مطاوعة، أئمة مساجد، خطباء، عسكريين، إعلاميين، سياسيين… هم في نفس الاتجاه، اتجاه النظام السعودي، النظام الإماراتي، ضمن الاتجاه الأمريكي، ضمن البوصلة الأمريكية والإسرائيلية، من يرتبطون به يتجهون نفس الاتجاهات، مهما جوَّدوا، مهما طبعوا من مصاحف، مهما وزَّعوا، القرآن يلعنهم (رُبَّ قَارِئٍ لِلقُرآنِ وِالقُرآن يَلعَنُه)، هذا على المستوى العام {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، فالمتقون علاقتهم بالقرآن علاقة اهتداء.
نتحدث- إن شاء الله- في الكلمة القادمة حول هذه العلاقة كمحور رئيسي في التقوى، وما يتعلق بها أيضًا من اهتمامات ومواصفات إضافية على ضوء ما ورد في كتاب -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- وفي آياته المباركة.
نسأل الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، أن يوفقنا لنكون من عباده المتقين، المهتدين بكتابه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، ويعافي مرضانا، ويفك ويفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا على أعدائنا، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛