المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 10 رمضان 1439هـ
في مرحلة الحساب تتجلى ثمرة التقوى
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
يتضح من خلال النصوص القرآنية المباركة ويظهر ما يحظى به عباد الله المتقين في ساحة المحشر، في مرحلة الحساب، من رعايةٍ إلهية، تتجلى ثمرة التقوى- آنذاك- فيما يحظى به عباد الله أولئك من تيسيراتٍ وتسهيلاتٍ، وكذلك من رعايةٍ واسعة تشمل التيسير للحساب، حتى لا يعانوا من تعسير الحساب، وكذلك ما يحظون به من البشارات المتتالية، منذ أن يبعث الإنسان المتقي وتعود إليه الحياة يحظى في كل مرحلة من مراحل القيامة ببشاراتٍ من ملائكة الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- تطمئنه، تهدئ من روعه، تعطيه الأمل؛ لأن المشهد- آنذاك- مشهد عظيم وهائل وكبير.
أيضًا في نهاية المطاف، أو في مراحل معينة من الحساب يحظون برعايةٍ أكثر من ذلك، يتوفر لهم الشراب، كما في القرآن الكريم: {يُسقَونَ مِن رَحيقٍ مَختومٍ * خِتامُهُ مِسكٌ} [المطففين: 25-26]، وآيات أخرى تفيد توفر الشراب والطعام لهم، لدرجة أنه يطلب منهم أصحاب النار- في ساحة المحشر- يطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من الماء أو من مما رزقهم الله من الأشياء الأخرى.
كذلك جمع الشمل على مستوى الأسر المؤمنة المتقية، وعلى مستوى الأخلاء، وعلى مستوى الجماعات المؤمنة والمتقية، تجتمع ويلتم شمل الجميع باطمئنان وارتياح وسعادة، كذلك ما يحظون به من السرور والارتياح النفسي والانتصار في عملية المحاكمة ما بينهم وما بين الظالمين والطغاة المستكبرين، كل ذلك تتجلى به ثمرة التقوى- آنذاك- في كل هذه النتائج العظيمة والمهمة، قيمة العمل الصالح، قيمة الاستقامة على نهج الله، قيمة الرجوع إلى الله في الدنيا والتوبة والإنابة والطاعة، كل ذلك تظهر ثمراته على نحوٍ عظيم في ذلك اليوم العظيم.
ولذلك حينما يقول الله لنا في كتابه الكريم: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: من الآية197]، علينا أن نتزود هنا في الدنيا، هذا الزاد الذي يفيدنا هناك، الذي ينفعنا هناك {يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ * إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ} [الشعراء: 88-89]، صلاح الإنسان في نفسه، وقلبه، وعمله، وسعيه، وكلامه، وإنابته إلى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في هذه الدنيا، وتوبته، ورجوعه المستمر إلى الله هو الذي يفيده يومئذٍ، يوم القيامة.
يتجلى أيضًا ويتضح ما يعاقب به الخاسرون في ساحة المحشر، وما يعانونه من: سوء الحساب، وفضيحة الحساب، والتوبيخ في الحساب، وكشف مستور جرائمهم، ودحض وتفنيد مزاعمهم وافتراءاتهم وتبريراتهم التي كانوا يحاولون في الدنيا أن يغطوا بها عن ظلمهم، وإفسادهم، وجرائمهم… وغير ذلك.
ما يعانونه أيضًا في ساحة المحشر مع طول يوم القيامة: من الظمأ، من الجوع، من القلق، من الرعب والفزع والجزع الشديد جدًّا، من الاضطراب الرهيب، ما يعانونه من الخزي والفضيحة، وانكشاف المستور والخفي من أعمالهم، وتجلي سوء أعمالهم وسوء آثارها في الحياة.
أيضًا ما بينهم هم- فيما بينهم- من تفكك الروابط التي كانت بينهم في الدنيا، في الدنيا كانت بينهم الروابط التي يتعصبون بها لبعضهم البعض، المودة الشديدة في الدنيا، لدرجة أنهم كانوا في الدنيا يحبون أندادهم الذين اتخذوهم أندادًا من دون الله، يحبونهم كحب الله، ولكن هناك تتفكك تلك الروابط، وتلك العصبيات، تلك المودة التي كانت في الدنيا بناءً على مصالح مشتركة، وروابط معينة، وتوافق على الطغيان، وعلى الإجرام، وعلى الظلم، وعلى الفساد، وعصبيات معينة، كلها تتلاشى هناك، وتتبدل إلى خصام، وإلى بغضاء، وإلى عداء، {الأَخِلّاءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقينَ} [الزخرف: الآية67]، حتى الذين بينهم رابطة النسب، إذا لم تكن بينهم رابطة التقوى تتفكك تلك الروابط، {يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبيهِ} [عبس: 34-35]، هذه الأسر التي لم يكن مع رابطة النسب رابطة التقوى، تفككت رابطة النسب، كل الروابط تتفكك إذا لم يكن هناك رابطة التقوى، {إِلَّا المُتَّقينَ}.
وهكذا، تتجلى خسارة أولئك الذين أعرضوا عن نهج الله، الذين لم يستجيبوا لله في هذه الدنيا، الذين عصوا الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- وأعرضوا عن هديه في هذه الدنيا، الذين لم يتقوا الله في هذه الدنيا تتجلى خساراتهم هناك.
المؤسف أن أغلبية البشر سيخسرون
وفي المرحلة الأخيرة عند انقضاء الحساب يتجلى كثرة الخاسرين من البشر، هذا أمر مؤسف، بمعنى: أن أكثر البشرية سيخسرون، لماذا؟ لأن أكثر البشرية في الدنيا اتجهوا في هذه الحياة وراء شهوات أنفسهم، وراء رغبات أنفسهم، وراء أهواء أنفسهم، واستغل الشيطان هذه النقطة، نقطة الضعف فيهم، انجرارهم، وميلهم، واتجاههم نحو الشهوات والرغبات والميول النفسية والانفعالات، وعدم الإصغاء لهدى الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ولا للحق، ولا لنداءات الحق من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ورسله وأنبيائه والهداة من عباده، لم يصغوا، غفلوا، أصرّوا، عاندوا؛ فكانوا خاسرين.
ولذلك، من خلال ما ورد في القرآن الكريم، يأتي خطاب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- لبني آدم، والخطاب في عمومه- عندما وُجِّه لبني آدم- يتضح منه الأغلبية الكبيرة من بني آدم كهالكين وكخاسرين وخائبين، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يَا بَني آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ} [يس: الآية60]، حينما وجّه هذا النداء إلى بني آدم من الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- ويخاطبون به يوم القيامة، خوطبوا به في الدنيا للحذر، للانتباه هنا حيث ينفع الحذر، حيث ينفع الانتباه، حيث تنفع الذكرى، وينادون به أيضًا في ساحة المحشر، لكنه يوحي، يُفيد، يدل على كثرة الخاسرين والهالكين الذين اتجهوا هذا الاتجاه (عبادة الشيطان).
عبادة الشيطان.. ما ذا تعني؟
كيف هي عبادة الشيطان؟ ليست المسألة أن تصلي له، وتركع له ركعات معينة، وتصوم له، وتتوجه بقصد العبادة له في نيتك، ليس المقصود هذا، بل إيثار طاعته على طاعة الله، أن تعصي الله وتطيعه، هذه هي عبادته، أن تخالف نهج الله، هدي الله، وتعصي الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- وتخالف كتاب الله، ولا تصغي لتوجيهاته، ولا لآياته، ولا لنوره، ويستغفلك الشيطان، فيؤثر عليك من خلال شهوات نفسك، وانفعالات نفسك، وميول نفسك، واتجاهات نفسك؛ فتتجه اتجاه الشيطان.
اتجاه الشيطان ما هو؟ عصيان الله. برنامج الشيطان في الدنيا، في الحياة الدنيا، هو المعصية لله، المخالفة لهدي الله، الابتعاد عن نهج الله، الابتعاد عن طاعة الله، هذا هو برنامج الشيطان في الحياة، من يطيعه فقد عَبَدَه؛ لأنه آثر طاعته بدلًا من طاعة الله، واتجه في مسار الشيطان: مسار العصيان لله، مسار المخالفة لهدى الله ولنهج الله، وترك مسار الحق: هدى الله، طريق الله، لم يتبع أنبياءه، ولا هديه، ولا الهداة من عباده.
{أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يَا بَني آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ}، وما أعظم خسارة كل الذين عبدوه وهو عدوهم، كيف لم تعبد ربك المنعم عليك، وليّ نعمتك، العظيم، الرحيم، الإله، الملك، الحق، المبين، الذي هو رب العالمين، الذي له الحق في الطاعة والعبادة، الذي مصيرك إليه، نعمتك منه، حسابك إليه، جزاؤك إليه، كيف لم تعبده؟! كيف اتجهت في هذه الحياة وجهة عدوك(الشيطان) الذي هو: خسيس، ورجيم، ورجس، ونجس، وملعون، ومطرود، ويحقد عليك، ودفع بك في وجهةٍ ليس لك فيها خيرٌ ولا مصلحة أبدًا، خسارة كبيرة جدًّا.
الشيطان يلقي كلمة في أصحابه!
من مقامات يوم القيامة، بعد انقضاء عملية الحساب، وبعد أن يتحدد مصير أصحاب النار، كل الذين هم إلى النار أصبحوا هناك، اكتملت عملية الحساب، أغلقت الملفات، قرر مصير كل إنسان، كل فئة، كل أمة، كل كيان، وفرز البشر: أصحاب النار لحالهم، أصحاب الجنة لحالهم. الشيطان هناك- وهو كبير أصحاب النار، وهو رمزهم الكبير، وزعيمهم الكبير، والقائد الأعلى لهم- يلقي فيهم كلمة، ما هي هذه الكلمة؟ {وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ}، خلاص، اكتملت عملية الحساب وانتهت، وأصبح مصير أصحاب النار محتومًا، وأصبحوا مميزين ومفروزين، ووجهتهم حددت، والتحضيرات لنقلهم إلى جهنم بدأت، {وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ}، ما الذي سيقوله لهم؟، هل سيشكرهم؟ هل سيوجه لهم كلمة شكر، بعد أن تورطوا تلك الورطة العظيمة وأصبحوا من أهل النار، واتبعوه، آثروا طاعته، ولم يناصبوه العداء في هذه الدنيا، بعد أن أخبرهم الله أنه عدوٌ لهم؟ لم يناصبوه العداء بل اتجهوا خلفه، {وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم} [إبراهيم: من الآية22].
نحن في هذه الدنيا- يا أيها الناس، يا أيها الإخوة والأخوات- نحن في هذه الدنيا أمامنا دعوتان: دعوة الله، ودعوة الشيطان.
الله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، الله يدعو إلى دار السلام، دعوته هي: هديه، أوامره، توجيهاته، إن عملنا بها دخلنا الجنة ونجونا من النار، إن عملنا بها سعدنا في الدنيا والآخرة، وفزنا في الدنيا والآخرة، وكانت بها عزتنا وكرامتنا في الدنيا والآخرة، وكان بها فلاحنا ونجاحنا والخير لنا في الدنيا والآخرة.
ودعوة الشيطان ليست إلا الغرور، إلا الخداع، إلا الكذب، إلا الأماني، يوهمنا بالسعادة فلا نسعد، نلهث وراء تلك الدعوة لنسعد، فلا نسعد، فلا تتحقق لنا سعادة مهما حصلنا عليه في هذه الدنيا، مهما فعلناه بهدف تحقيق رغبات أنفسنا وشهواتنا، إنما تزداد الشهوة استعارًا، وتزداد الرغبة وقودًا، وينجر الإنسان إلى المزيد والمزيد والمزيد، فلا يصل إلى حيث يرغب، لا يصل إلى ما يلبِّي رغبة النفس فعليًا، فتهدأ نفسه، وتطمئن نفسه، وتستقر نفسه، وتحس بالسعادة نفسه. |لا|، أولئك اللاهثون وراء رغبات أنفسهم وشهواتها، والشيطان يدفعهم بدعوته، لا يصلون إلى نتيجة، يصلون إلى النار في الأخير، إلى العذاب.
{وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم}، تلك الأماني والأوهام والآمال التي رسمها الشيطان وانخدع بها الإنسان لا يصل إليها، يُخلفه الشيطان؛ لأنه لا يملك أصلًا، لا يملك سعادتك، الشيطان لا يملك سعادتك، لا يملك أن يلبِّي طموحاتك بمستواها أحدٌ إلا الله، الجنة بنعيمها العظيم فيها ما يلبِّي طموحك، ما يسد حاجة نفسك، ما يوصلك إلى الغنى الأبدي والحقيقي، إلى السعادة الحقيقية والأبدية. في الدنيا نفسها ليس هناك ما يُكْسِبُك الاطمئنان الفعلي والحقيقي، والراحة النفسية الحقيقية، والشعور بالحياة الطيبة، إلا الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- بهديه، بذكره، بالعمل الصالح، بكل آثاره ونتائجه في الدنيا والآخرة، {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، الشيطان يقول لكل الذين أطاعوه ولم يتقوا الله، يقول: [أنا ما كان لي عليكم في الدنيا من سلطان حتى أتمكَّن من إجباركم وإرغامكم على عصيان الله وعلى الإتباع لي، أمرٌ واحدٌ فعلته لكم في الدنيا: (دَعَوْتُكُمْ)]، وفعلًا الشيطان ليس له أكثر من ذلك، أكثر من دعوة يدعوك بها إلى المعصية، يستغل شهوة نفسك، رغبات نفسك، أو انفعالاتك وغضبك وسخطك وعُقَدِك؛ لأن الإنسان إما هذه أو تلك تؤثر فيه في الحياة، إما دوافع الرغبة والشهوة، وإما دوافع الغضب والانفعال والعقد تدفعه إلى فعلٍ ما، أو إلى عملٍ معين، أو إلى تصرفٍ معين، أو إلى كلامٍ معين، أو إلى موقفٍ معين.
فالشيطان يقول: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، هكذا يوبخهم، هذه كلمة الشكر التي يلقيها فيهم: توبيخ، براءة منهم، يقول لهم أنه لا يمكن أن يصنع لهم أي شيء مقابل الجميل الذي فعلوه نحوه: أطاعوه وعصوا الله، اتجهوا نحوه وغفلوا عن الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- {فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ}، [لن أفعل شيئًا لإنقاذكم، ولا لإغاثتكم، ولا لدفع العذاب عنكم، وأنتم في المقابل لا يمكن أن تفعلوا لي شيئًا]، هكذا يقول لهم، هذه كلمة الشكر التي يوجهها والعياذ بالله.
ولو يتأمل الإنسان كيف ستكون حسراتهم وهم يسمعون الشيطان يخطب فيهم ويقول لهم هذا الكلام، كيف ستكون حسرة الإنسان، أنت خسرت الله، خسرت ولايته، رعايته، رحمته، محبته، هل هناك خسارة أكبر من هذه، كيف واقع أولئك الذين أطاعوه، اتقوه، خافوه في الدنيا، آثروا طاعته فوق كل شيء، خضعوا له في الدنيا، استجابوا له، يحظون هناك بمحبته، برعايته، برحمته، بتكريمه، وهناك في الآخرة تتجلى رحمة الله على أعظم مستوى فيما يقدِّمه لعباده المتقين، ويتجلى سخطه وبأسه وعقابه وغضبه وانتقامه على أشد مستوى فيما يفعله بأولئك العصاة الخاسرين.
وجيء يومئذ بجهنم!
بعد هذا وذاك، تبدأ عملية الحشر، أو الترتيبات للانتقال من دار الدنيا- التي أصبحت آنذاك ساحة للحساب- إلى عالم الجزاء، حيث يؤتى بجهنم وتُقرَّب، نعوذ بالله من سخط الله، يقول الله في القرآن الكريم: {وَجِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: الآية23] جيء بها (جهنم) عالم كبير، دار العذاب، دار السخط الإلهي، سجن الله الأكبر الذي سينتقل إليه كل أولئك العصاة الذين لم يكونوا متقين، لم تكتب لهم النجاة، (جِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تُقرَّب، الله أعلم أين كانت قبل عملية الحشر! بالتأكيد كانت تُعد إعدادًا رهيبًا في العذاب، توقد بنيرانها المستعرة، جهنم التي أعدَّها الله لتكون تجليًا لبأسه، لقدرته في العقاب، لسخطه وغضبه، ما أسوء الإنسان الذي لم يقدِّر سخط الله في الدنيا وغضب الله في الدنيا، ما أسوء الإنسان الذي كان يحسب ألف ألف حساب لغضب جبارين في الدنيا وطغاة مستكبرين من الناس العاديين، لا يمثِّل شيئًا سخطهم، ولا بأسهم، ولا ما يمتلكونه من قدرات في هذه الدنيا بجنب زفرة واحدة من زفرات جهنم.
جهنم الشديد فيها، والمخيف فيها، والرهيب فيها أنها تجلٍ لسخط الله وتعبيرًا عن غضب الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- الله جعل فيها- بقدرته التي لا حدود لها- ما يدل، ما يُعبِّر، ما يتجلى فيه بأسه الشديد، عقابه الشديد، بطشه وجبروته، جبروت الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- بالنظر إلى قدرته، إلى قوته، إلى عزته، هو الجبار المنتقم العزيز المتكبر، إلى كبريائه العظيم، أمرٌ مهولٌ رهيبٌ عظيمٌ فظيعٌ، يجب أن يخشاه الإنسان وأن يتقيه الإنسان. مثلما رحمته واسعة، وحبه عظيم، وكرمه عظيم، وألطافه واسعة، والجنة هي مستقر رحمته، أرقى تجلٍ لرحمته وكرمه وفضله وعظيم لطفه ومحبته، النار هناك تجلٍ عظيم وكبير لكبريائه وبأسه وسطوته وجبروته وعذابه.
يومئذ يتذكر الإنسان!
{وَجِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، ما إن يؤتى بجهنم وتُقرَّب من دار الحشر، أو من ساحة المحشر، إلا والكثير من الناس- بالذات أولئك الذين مصيرهم إليها- يُحِسُّون بالرعب الشديد والخوف الشديد والرهبة، والكثير من الناس ممن كانوا في هذه الدنيا غافلين وغير مبالين، حتى عندما يُذكَّرون بالنار، بعذاب الله، بسخط الله؛ لا تهتز لهم شعرة، ولا يرف لهم جفن، ولا يبالون، ولا تخشع قلوبهم، غفلوا في هذه الدنيا، وتجاهلوا كل النذر في هذه الحياة، لكن حينما يؤتى بجهنم هل سيبقى على تلك المشاعر التي كان عليها في الدنيا، تلك المشاعر الجامدة، الباردة، الباهتة؟ ذلك الذي كان في الدنيا بليدًا، متحجر القلب، متحجر المشاعر، خشن الطباع، جلفًا، لا يخشى، ولا يخضع، ولا ينتبه، ولا يلتفت، ولا يبالي، ما إن يؤتى بجهنم إلا وتحركت مشاعره واهتزت بشكل شديد جدًّا {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ}، يتذكر الإنسان الذي لم يتذكر يوم ذُكِّر في الدنيا، لم يتعظ، لم ينتفع، لم يلتفت، لم يبال، لم يستيقظ، كان على حالةٍ رهيبة من الغفلة والتبلد وعدم الإحساس، لم يكن يمتلك يقظة المشاعر وحيوية الإحساس، بل متبلد، قلب قاسي. |لا|، الآن انتهت القساوة، أصبح هادئًا، خاشعًا، متواضعًا، لطيف الطبع والمشاعر، حي الإحساس، {يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنّىٰ لَهُ الذِّكرىٰ}، فات الأوان فات الأوان، تَذكَّر، لكن لم يعد ينفعه تذكره، لم يعد ينفعه تذكره أبدًا {وَأَنّىٰ لَهُ الذِّكرىٰ}، ماذا ستفعل له، ماذا ستفيده آنذاك؟ {يَقولُ يَا لَيتَني قَدَّمتُ لِحَياتي} [الفجر: الآية 24]، يا ليتني في الدنيا عملت العمل الذي أقدِّمه لهذه الحياة الأبدية، لهذه الحياة الحقيقية، لهذه الحياة المهمة، التي الخير فيها لا مثيل له، والشر فيها لا مثيل له ولا نهاية له، خلاص، أمنيات، تحسر، ألم نفسي، إحساس بالخسارة، إحساس بالتفريط، {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56]، يُحِس بالتفريط، ولكن كعذاب نفسي لا يفيده بشيء.
يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعًّا!
النار حينما تأتي لتُقرَّب من ساحة الحشر {إِذا رَأَتهُم مِن مَكانٍ بَعيدٍ سَمِعوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفيرًا} [الفرقان: الآية12]، عندما تقابلهم، وهي لا زالت هناك في البعيد، تبدأ أصواتها تصل إليهم- إلى ساحة الحشر- أصوات هائلة؛ لاستعار نيرانها، لبراكينها، لحميمها الذي يغلي، كلها مصممة ومخلوقة ومعدَّة ومهيأة للعذاب، عالم أُعدّ خصيصًا للتعذيب، لعذاب الإنسان، ليس فيه مكانٌ للراحة أبدًا، مساحات واسعة منه كلها تستعر نارًا، النار كما وصفها الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- سميّت، ذلك العالم سمي بالنار، سمي بجهنم، كله مكان للعذاب، لا مكان فيه للراحة، ولا لجزءٍ يسيرٍ من الراحة أبدًا.
ولذلك خوفهم شديد جدًّا حينما يأتي الأمر الإلهي بنقلهم وحشرهم من ساحة المحشر إلى جهنم، تكون حالة الخوف رهيبة جدًّا لديهم، لدرجة أنهم يحاولون أن يمتنعوا، يحاولون أن يتشبثوا بالبقاء في ساحة الحشر، وان يمتنعوا من الذهاب والانتقال إلى جهنم والعياذ بالله. يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- في كتابه الكريم وهو يحكي لنا هذه الحالة: {يَومَ يُدَعّونَ إِلىٰ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: الآية13]، يعني: يُدفعون دفعًا إليها، يقول أيضًا: {يُعرَفُ المُجرِمونَ بِسيماهُم فَيُؤخَذُ بِالنَّواصي وَالأَقدامِ} [الرحمن: الآية41]، يرغمون ويُدفعون، زبانية جهنم، الملائكة المخصصون لهذه المهمة يأتون إليهم، يأخذون البعض منهم بالنواصي، يعني: بمقدمة شعر الرأس، والبعض يسحبون بالأقدام، في بعض النصوص عن النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-: أن الرجال منهم يسحبون بأقدامهم، والنساء يسحبن بالنواصي، بشعر رؤوسهن -والعياذ بالله- {فَيُؤخَذُ بِالنَّواصي وَالأَقدامِ}، ويُذهب بهم رغمًا عنهم، ويحشرون إلى جهنم رغمًا عنهم.
حتى في تلك اللحظة التي يساقون فيها سوقًا إلى جهنم يُقال لهم في تلك اللحظة، وهم في الطريق في عملية الانتقال، في أول ما يتم نقلهم والسوق لهم والحشر لهم، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {وَقِفوهُم إِنَّهُم مَسئولونَ} [الصافات: الآية24]، يُوجَّه إليهم سؤال في تلك اللحظة: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: الآية25]، هل بإمكانكم، وأنتم جمعٌ كبير وحشدٌ هائل من البشرية في جميع مراحل حياتها وتاريخها، أن تتضامنوا، وأن تتكتلوا، وأن تشكِّلوا موقفًا واحدًا {بَل هُمُ اليَومَ مُستَسلِمونَ} [الصافات: الآية26]، خلاص، ما يستطيعون- بالرغم من كثرتهم- أن يشكِّلوا موقفًا ليمتنعوا به من الذهاب بهم إلى جهنم، هم في حالة من الاستسلام التام والعجز المطلق.
فاهدوهم إلى صراط الجحيم!
في عملية الانتقال هذه، وهم يحشرون إلى هناك، هناك طريق مخصصة لجهنم، يقول الله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: من الآية23]، صراط الجحيم يعني: صراط جهنم، يعني طريق جهنم، مثلما طريقها في الدنيا طريق مختلفة عن طريق الجنة، هي: العصيان لله، هي المعاصي، هي الذنوب، هي المخالفة لهدي الله، طريقها أيضًا في الآخرة طريق لوحده، ليس صحيحًا ما يقوله البعض، هناك روايات غير صحيحة في هذا الشأن: أنها طريق واحدة، طريق الجنة من على جهنم، يعبِّر الإنسان من فوق جهنم فيصل إلى الجنة. |لا|، هذا التعبير القرآني في سورة الصافات مفيد جدًّا في هذه المسألة؛ لأنه يقول: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}، سمَّاه صراط الجحيم، صراطها: طريقها المخصص لها، وهذا الشيء الذي يتناسب ويتلاءم وينسجم مع عدل الله ورحمته ولطفه وفضله وكرمه، ومع الآيات القرآنية التي تفيد هذا، وتفيد في حشر المتقين إلى الجنة أنه في جوٍ من الاطمئنان والتكريم، وبالطبع لو كانت المسألة أنهم يعبرون من فوق جهنم لما كان هناك لا اطمئنان ولا تكريم، سيأتي الحديث أيضًا في حشر أهل الجنة إلى الجنة.
أولئك، تلك الكتل البشرية، الخبيث في هذه الدنيا جمع، كل الخبثاء من: المنافقين، والفاسقين، والمجرمين، والمستكبرين، والطغاة، والظالمين، والمفسدين، كل تلك الاتجاهات بمختلف مسمياتها تتجه إلى النار، يجمعها عنوانٌ واحد، هو: الخبث، قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: من الآية37].
في الوصول إلى قرب جهنم- والعياذ بالله- حالة رهيبة جدًّا، مشهد هائل، كلما اقتربوا منها كلما ازداد خوفهم ويأسهم ورعبهم وفجيعتهم، أمر هائل جدًّا، كلما سمعوها أكثر، وكلما وصلت رائحة حممها ونيرانها المستعرة، وكذلك فوح لهبها يصل إليهم، كلما اقتربوا أحسُّوا بحرارتها، وسمعوا أصواتها الهائلة بشكلٍ أكبر، أمر هائل ورهيب جدًّا، نستجير بالله منه، أمر جدير بأن يتفهمه الإنسان في هذه الدنيا جيدًا، أن يتأمل فيه، أن يتذكره، أن يحسب حسابه، لكي ينتبه لنفسه هنا في الدنيا؛ لأن هذا هو الهدف، التذكير وتلك التفاصيل التي قدِّمت في القرآن هي للاستفادة منها في هذه الدنيا.
الحواس تشهد فلا مجال للإنكار
حين الاقتراب من جهنم، وحين الوصول على حافتها، الإنسان من جديد يُنكر، ويحاول أن يكابر، ويحاول أن يقدِّم نفسه بريئًا، وغير مذنب، وأنه لا ينبغي أن يُذهب به إلى النار، حالة رهيبة جدًّا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: الآية20]؛ لأن الإنسان هناك يحاول أن ينكر أشد الإنكار، ويصيح، ويتظلم، ويحاول يقول: [أنا بريء، أنا غير مذنب، أنا لم أعمل تلك الأعمال التي سأدخل بها إلى هذا العذاب]، ويصيح ويستغيث، ولكن يقيم الله عليه حجته بشكلٍ حاسم، لا يملك بعده أن يقول شيئًا، ولا أن يتذرع بشيء، ليبرر ما وصل إليه، أو ليكابر وينكر.
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}، الحواس الرئيسية في الإنسان: سمعه، بصره، وأيضًا جلده، {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ لأن مشكلة الإنسان هي هنا (في أعماله)، هذه نقطة جوهرية، هذه المسألة أكَّدت عليها آلاف الآيات في القرآن: (العمل، ثم العمل، ثم العمل)؛ لأن البعض من الناس يقدِّمون مفاهيم مغلوطة ومخادعة، وقد ينخدع بها البعض، مثلًا: البعض يقول: [يكفيك يا أخي أن تنتسب للإسلام ثم تعمل أي شيء تشاء وتريد]، يكفي أن تقول: أنا مسلم، أشهد أن لا إله إلا الله، أن محمد رسول الله، ثم لا تدع جريمة إلا وتفعلها، وتنافس كل الكافرين، وكل الآخرين المنتسبين لأديان أخرى، أو اتجاهات أخرى في هذه الدنيا، تنافسهم في جرائمهم، وفعلًا بعض المنتسبين للإسلام أشد إجرامًا وأفظع ذنوبًا ومعاصي من كثير من اليهود والنصارى والمشركين، يا أخي بعض البوذيين لا يرتكب من الجرائم ما يرتكبه بعض المنتسبين للإسلام؛ لأن البعض لم يفهم ماذا يعني الانتماء للإسلام، لم يفهم أن الإسلام دين فيه منهج، فيه شريعة، فيه حلال، فيه حرام، فيه أحكام، فيه تقوى، فيه طاعة، فيه التزام. وعنده |لا|، المسألة أن ينتسب انتسابًا، بطاقة هوية للانتساب فقط، ثم ينطلق معهم (مع اليهود، والنصارى، والمشركين، والآخرين) لينافسهم، يتحد معهم في نهجهم في هذه الحياة، في الأعمال، في المواقف، في السياسات، في التصرفات، فيما بُنيت عليه حياة الناس وواقعهم، وينافس، ويزاحم، ويحاول أن يكون بارزًا أكثر منهم، وفاعلًا أكثر من فعلهم، وأن يكون أيضًا منافسًا لهم حتى في مشاريعهم السياسية والعملية في هذه الحياة، كلها عملية، كلها أعمال.
الأساس الذي يُبنى عليه مصير الإنسان أعماله، تبقى قضية الإيمان قضية أساسية، قضية الانتساب للإسلام قضية أساسية، ومعها العمل، ولذلك ما الذي يقول أهل النار، وما الذي يُشهَد عليهم به؟ مجرد انتساب، بما كانوا ينتسبون؟ |لا|، {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، الأعمال هي الأساس.
نقاش مع الجلود!
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: الآية21]، الإنسان يصل إلى حالة من الخرس، يعني: لا يملك أي تبريرات إضافية للمكابرة والإنكار بعد أن شهد عليه حتى جلده، فيتجه هو إلى جلده ليتناقش مع جلده: [كيف شهدت عليَّ يا جلدي، كيف شهدت عليَّ بما فعلت]، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}، تجيبهم الجلود، جلدك يجيبك، أنت في مشكلة، قد حاولت أن تناكر وتكابر أمام صحيفة العمل، والعمل موثقٌ فيها ومشاهد ومرئي، كابرت الأشهاد من البشر، الشهود من الملائكة، كابرت الحقائق الواضحة، حينها أنت في مكابرة أو في مشكلة مع نفسك، خلاص، ما عاد تملك أي شيء، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، هو الذي يمنح القدرة على النطق، على التعبير عن الحقيقة وإظهار الحقيقة لكل شيء آنذاك، { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 21-22]، ما كنت تحسب حسابًا في هذه الدنيا، أصلًا كيف ستفعل لتستتر من جلدك، كيف ستفعل لتختفي من حاسة سمعك وبصرك؟!
لقد تضمَّن بصرك الشهادة عليك بما عصيت به: في الدنيا كنت تتسمَّر بنظرك تشاهد المشاهد الخليعة التي أفسدت نفسيتك، تشاهد المشاهد الإباحية والخليعة التي دنست نفسك ودمرت إيمانك وحياءك وفطرتك، وجرَّتك إلى المعاصي، تتسمّر عيونك وأنت تشاهد أبواق الضلال ودعاة الشر ودعاة الضلال من: المفترين، والضالين، والدجالين، والكاذبين، الذين كانوا يدفعونك إلى الموقف الخاطئ والتصرف الخاطئ، وتنجر في الولاءات الخاطئة والمواقف الخاطئة.
في الدنيا كم شاهدت ببصرك عصياناً لله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- كم سمعت الحرام، كم سمعت اللغو، كم سمعت الباطل، كم سمعت الافتراء والبهتان وتأثرت به، كم سمعت صوت الباطل فتأثرت به، كم سمعت الملاهي واللهو الذي أفسد ودنس نفسيتك وتأثرت به، كم سمعت الأكاذيب وتأثرت بها، كل الذي سمعته فأثَّر عليك سلبًا، آنذاك هناك عليك شهادة به من سمعك نفسه، وجلدك يكمّل ما بقي، شهادة بأشياء كثيرة جدًّا.
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}، في كثيرٍ من أعمالك كُنت تغفل عن الله وعن رقابته، وكأن الله لا يعلم ما تفعل، فلم تحسب حساب الله، لم تستحِ منه، لم تخف منه، لم تتذكر رقابته، وكأنه لن يدرك ما تفعل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: الآية23]؛ لأنك لم تحسب حساب رقابة الله، فلم تستح من الله، ولم تخف من الله، هذه هي النتيجة، (أَرْدَاكُمْ): أهلككم، فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ، {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [فصلت: الآية24]، كيف صبر على النار؟! كيف صبر على لهبها وحريقها وعذابها! {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا}، يطلبوا العتبى، يطلبوا التوبة، يقول: [أنا سأتوب بكل صدق، وأعبِّر عن أسفي وندمي وخجلتي، وأنا مستعد أن أؤكِّد أن لا أعود مرةً أخرى لما كنت أعمله وأفعله، وسأصحح مستقبلي في هذا العالم، أو في أي عالمٍ آخر أُعاد إليه، أو في الدنيا إذا أُعدت إليها] {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ}، ما هناك فرصة أبدًا للعودة، ولا للتوبة، ولا للتصحيح، ولا للرجوع، ولا للعفو، ولا للمغفرة؛ لأن كل هذا عُرِض عليك في الدنيا، عُرِضت عليك الرحمة، عُرِضت عليك التوبة، عُرِضت عليك المغفرة، عُرِضت لك طريق الخير والإنابة والرجوع إلى الله، فلم تقبل أنت، بقيت مصرًّا، غافلًا، مستهترًا، مستبسطًا، متهاونًا، لا مباليًا؛ فخسرت كل شيء.
الورطة الكبرى والمصير الدائم!
عند الوصول إلى جهنم، ومن أول الإجراءات التي تُتخذ ضد الإنسان، ما قبل الإلقاء به إلى جهنم، أن يُقيَّد بقيود الله؛ لأنه سيُسجن، هو يتجه إلى السجن الأبدي، السجن الرهيب، حيث فيه كل أصناف التعذيب التي لا مثيل لها، وما أعظم قيود الله {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: الآية26]، قيود ما مثلها قيود في الدنيا، لا قيود الدنيا الحديدية، ولا غير القيود التي كانت متوفرة وتستخدم في الدنيا تساوي شيئًا عند تلك القيود، في الدنيا كان الكثير من الناس يخاف من سجونها، يُذعِن للطغاة، يلتحق بصف المجرمين والظالمين والمفسدين؛ بسبب الخوف منهم، ولم يخف من الله، تلك القيود الإلهية وسلاسل جهنم {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: الآية32]، سلسلة طويلة جدًّا من نار جهنم يُقَّيد بها الإنسان ويُربط بها، حتى تكون محيطةً به، يُقَّيد بها من أسفله إلى أعلاه، إضافةً إلى الأغلال في الأعناق {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: الآية71]، يداك تُقَّيد إلى عنقك، وتُلَفّ عليك تلك السلاسل بشكلٍ تام، ويُلقى بك في جهنم، من أي بابٍ ستدخل منها بحسب النظام الإلهي، وأنواع العذاب، ودرجات العذاب، ومستويات العذاب {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: الآية44].
يُعتاد في الدنيا أن للسجون ثيابها، للسجون ثيابًا مخصصة، فما هي الثياب المخصصة في نار جهنم، من أي نوع؟ من القطن، من الكتّان، من المنتجات الحديثة؟! أبدًا {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} [الحج: من الآية19]، {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: من الآية50]، هذان نوعان من الثياب الجهنمية، شيءٌ منها مُقطّع، يعني: مفصّل قطع نارية يلبسها الإنسان ويكتسي بها، ونوع منها آخر هو القَطِرَان الذي يخرج من جسم الإنسان وهو يحترق يحترق يحترق باستمرار حتى يُغطي جسمه، ثم يُلقى به في جهنم، عالم كل ما فيه عذاب.
جهنم المستعرة بنيرانها الهائلة جدًّا، على نحوٍ هائلٍ ورهيب وفظيع جدًّا {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: من الآية24]، ستبقى تتغذى بالناس فتزداد استعارًا واستعارًا، وَالْحِجَارَةُ، ما أبأس الإنسان الذي سيكون إلى جانب تلك الحجارة وقودًا لجهنم.
آلام الاحتراق بالنار، وهي آلام هائلة جدًّا، وكلنا ندرك جيدًا في هذه الدنيا بشاعة وألم الاحتراق بالنار، هي من أسوأ ما يمكن أن يُعذَّب به الإنسان، أن يحرق بالنار، عذاب شديد جدًّا، ومؤلم جدًّا، ومخيف جدًّا، نيران جهنم المستعرة جدًّا جدًّا، والتي أوقدها الله من سخطه، بدرجة حرارتها الهائلة جدًّا جدًّا– الله أعلم كم ستكون درجة حرارتها- سيحترق بها الإنسان بشكلٍ مباشر، حتى وجهه الذي يباشر النار، يباشر النار وتباشره النار، كيف ستكون آلام الإنسان، والحريق ونيران جهنم تستعر عليه من فوقه ومن تحته ومن كل الاتجاهات؟! أمر هائل جدًّا، أمر هائل ورهيب جدًّا.
شراب وطعام جهنم!
إضافةً إلى أن كل ما في ذلك العالم المستعر بالنيران، والذي يغلي فيه الحميم، كل ما فيه عذاب، الإنسان منذ كان في لحظة المحشر أُصيب بالظمأ الشديد، ولم يحظَ في ساحة المحشر بقطرة من الماء والشراب، وعندما ورد إلى جهنم ورد وهو يعيش حالة الظمأ، زاد ظمؤه مع الخوف، مع ما كان في ساحة الحساب من الحساب والتشديد وتلك الأجواء الرهيبة، قد وصل إلى درجة هائلة ورهيبة من شدة الظمأ. في صيامنا يجب أن نتذكر الظمأ يوم القيامة؛ حتى لا نكون من أولئك الذين يظمئون ولا يشربون أبدًا، حتى إذا وردوا جهنم شربوا فيها ماذا؟ بعد الاستغاثة، بعد الظمأ الشديد جدًّا جدًّا، الذي يزيدهم عذابًا إلى عذاب حريق جهنم ونيرانها المستعرة، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء} [الكهف: من الآية29]، كيف هو هذا الماء؟ بارد، مثلجات، مكعبات، معلبات من الماء الذي هو مستساغ وعذب؟ {كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، (كَالْمُهْلِ): ماء رديء جدًّا، ماء متغير، متعفن، وأشبه بحثالة الزيت، مسود نتن الرائحة جدًّا، وشديد الحرارة للغاية، لدرجة أنهم ما إن يقربوه إلى أفواههم للشرب إلا وشوى- من شدة حرارته- وجوههم (يَشْوِي الْوُجُوهَ)، أما بعد الشرب وحين يصل إلى المعدة كيف الحال هناك؟ (فَقَطَّعَ أَمعاءَهُم) {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: من الآية 15] تتقطع به أمعاء الإنسان، ويُحس بألم شديد، واحتراق شديد في داخله من شرب ذلك الماء، {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ} [إبراهيم: من الآية16]، (صَدِيدٍ): قيح قذر جدًّا ومتعفن، ويغلي جدًّا، {يَتَجَرَّعُهُ} جرعةً جرعة {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}؛ لأنه متعفن، حار جدًّا، لا يروي ظمأه، ولا يخفف من عطشه أبدًا، مما هو جزء من عذابه.
عند الجوع الشديد جدًّا ماذا يقدَّم لهم من طعام؟ وهم في الدنيا كانوا يؤثرون الباطل، والمفاسد، والمظالم، والالتحاق بصف الطاغوت؛ من أجل الوجبات الدسمة، والتخمة، والمأكولات المعينة، ما الذي يكون هناك من طعام؟ {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} طعامهم هو الزقوم، هي الفاكهة والطعام بكله، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43-46] شجرة الزقوم البشعة الشكل {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: الآية65]، النتنة الرائحة، البشعة في شكلها، ومنظرها، ومذاقها، وحجمها، وشكلها، وكل شيءٍ فيها بشع، وحارة جدًّا، وإذا أكلوها تغلي في بطونهم كغلي الحميم، فهي جزء آخر من عذابهم، ولا يشبعهم.
وهناك عملية استحمام وسباحة!
إضافةً إلى ذلك عمليات الاغتسال في جهنم؛ من أجل الحصول على مزيدٍ من الأناقة، والرشاقة، والجمال، والنظافة، ووو…إلخ. ما هي حالات الاغتسال هناك؟ وما هي المادة التي ستضاف إلى مراسم الاغتسال ومسابح جهنم التي سيتجهون إليها والعياذ بالله؟ أمر هائل ورهيب جدًّا، يقول الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى-: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ} [الدخان: الآية47]، الملائكة يأخذونه رغمًا عنه، ويسحبونه ويرغمونه على الذهاب معهم (إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ): أشد مكان للنيران والعذاب في جهنم: في وسطها {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان: الآية48]، يُسكب من فوقه من حميم جهنم الشديد الحرارة جدًّا، {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: من الآية19-20]، ما إن يغتسل به ويصب من فوق رأسه إلا وذاب منه جلده، وحتى- أكثر من ذلك- ما في بطنه، يختلس جلده فوراً من شدة الحرارة، وما في بطنه كذلك يذوب ذوبانًا من شدة الحرارة الرهيبة، كيف ستكون: آلامه، صراخه، وجعه الشديد، معاناته الرهيبة {إِذِ الأَغلالُ في أَعناقِهِم وَالسَّلاسِلُ يُسحَبونَ * فِي الْحَمِيمِ} [غافر: 71-72] مسابح جهنم، البعض يذهبون إلى مسابح الاختلاط عراة، يغرقون في كثيرٍ من المفاسد الأخلاقية، هناك في مسابح جهنم بالسلاسل يسحبون بينها، ثُمَّ فِي النَّارِ بعد الاغتسال في مسابح جهنم الحارة جدًّا {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: من الآية72]، وكأنهم وقودٌ يوضعون في تنور من تنانير جهنم والعياذ بالله.
اخسؤوا فيها ولا تكلمون!!
في تلك الحالة من العذاب في: طعامهم، وشرابهم، واغتسالهم، وملابسهم، وكل وضعهم، فيما بينهم هم في حالة خصام مستمر وتلاعن مستمر، وحنق شديد على بعضهم بعض، بالذات السذج (الأتباع لقوى الطاغوت)، الذين ورطوا أنفسهم تلك الورطة الرهيبة والهائلة، ولا ينفعهم شيء أبدًا، عذاب شديد، يتضرعون إلى الله، كانوا في الدنيا أهل القسوة، وأهل الغفلة واللامبالاة، وأهل الأماني، وأصحاب السخرية والاستهتار بالإيمان، والرجوع إلى الله، التوبة، والإنابة، والطاعة…الخ. هناك هم في حالة رهيبة من التضرع والدعاء، يُقال أنهم يبقون في حالة رهيبة من العذاب وهم يدعون الله، يدعون يدعون يدعون بإلحاح، يجيب الله عليهم بعد زمن طويل جدًّا من العذاب وهم في نيران جهنم، من ضمن دعائهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، قالوا: [يا رب نحن أشقياء تورطنا، هذه ورطة]، {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ}، والضلال في الدنيا بكل أشكاله ضلال منه ما يحسب على الدين ومنه ما لا يحسب على الدين، ضلال اتجاهات كثيرة كلها تصرف الإنسان عن ذلك النهج السوي، عن الصراط المستقيم الذي يوصله إلى الجنة، ما حاد بك عنه فهو ضلال، ضيعك ضيعك، {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 106-107] يطلبون من الله أن يخرجهم منها {فَإِنْ عُدْنَا}، يعني: عدنا إلى الأعمال التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، عدنا إلى ذلك الضلال {فَإِنَّا ظَالِمُونَ}، يعني: نستأهل، هل سيجابون؟ قد أعطُوا فرصة الإجابة في الدنيا يوم كان الله يقول لهم {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: من الآية60]، فلم يدعوه، يوم أتيحت له في الدنيا الفرصة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: من الآية186]، فلم يلتفتوا، هناك كيف ستكون الإجابة لهم؟ {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: الآية108]، يمنعون منعًا باتًا، يمنعهم الله، (اخْسَؤُوا فِيهَا) يعني: ابقوا فيها خاسئين أذلاء، في حالة العذاب والهوان والخزي، وممنوعٌ عليكم أن تكلموني مرةً أخرى، بعد ذلك يمنعون من الدعاء، يُمنع عنهم أن يدعوا الله، يمنعون من ذلك {وَلَا تُكَلِّمُونِ} ممنوع عليهم نهائيًا {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109-111]، صبروا في الدنيا، صبروا على سخريتكم، صبروا على معاداتكم، صبروا على استهتاركم، صبروا على أذيتكم؛ فثبتوا على نهج الحق، على طاعة الله، على الإيمان، على الاستقامة، صبرهم على طاعة الله في الدنيا أوصلهم إلى الفوز العظيم والنجاة، أما أنتم ضعتم.
حينما يصبح الموت أكبر أٌمْنِيَّة!
بعد منعهم من الدعاء لله {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: الآية77]، ينادون خازن النار، المسؤول من الملائكة على إدارة شؤونهم {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}، دعوا بالموت، الموت الذي كان الإنسان في الدنيا البعض يكاد أن يخرج من الملة، البعض يتجه في صف الباطل، البعض يخذل الحق، البعض يتنصل عن مسؤوليات مهمة خوفًا من الموت، هم أولئك يطلبونه، يعتبرونه لو حصل نعمة أكبر نعمة {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}، ما بش موت، لا بد من الاستمرار والبقاء على قيد الحياة في العذاب المستمر، أما وسيلتكم للسلامة قد أتتكم في الدنيا {لَقَد جِئناكُم بِالحَقِّ}، يقول لهم مالك {لَقَد جِئناكُم بِالحَقِّ} [الزخرف: من الآية78]، يعني في الدنيا وكان فيه نجاتكم وسلامتكم، ولو تمسكتم به لما وصلتم إلى نار جهنم، {ولكن أكثركم للحق كارهون}، كرهكم للحق أوصلكم إلى عذاب جهنم.
يطلبون من الخزنة- بشكلٍ عام- ولو تخفيف يوم، إذا ليس بالإمكان الخروج، وليس بالإمكان الموت، فلو تخفيف يوم واحد يوم واحد فقط بعد زمن طويل من العذاب {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} [غافر: الآية49]، هل سيجابون؟ يوم واحد، يوم فقط {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: من الآية50]، التي فيها نجاتكم، سلامتكم، ما يقيكم من الوصول إلى جهنم أصلًا {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا}، نحن لا نستجيز أن ندعوا لكم أبدًا، ولا يمكن أن نفعل لكم شيئًا من ذلك أبدًا.
في سجن جهنم لا مجال للهرب
حين ييأسون من ذلك يحاولون أن يخرجوا، يبادرون هم، يتحركون هم، يبقون في حالة وعملية صعبة في التنقل في جهنم في جغرافيتها الرهيبة جدًّا، وهي كلها مستعرة بالنيران، يقال أن فيها جبال هائلة من النيران؛ لأن شررها- كما في القرآن الكريم- {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: الآية32]، الشرر الذي يتطاير منها وهي مستعرة، فكيف جبالها، صخورها، وديانها، حميمها، السفر فيها عملية صعبة جدًّا، حتى إذا وصلوا إلى أطرافها بعد- الله أعلم- كم مليارات من السنين، وبعناء شديد جدًّا وعذاب شديد جدًّا، {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: الآية21]، وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ, تلك المقامع بأيدي الملائكة (الزبانية) الذين يعذبونهم {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: الآية22]، يُعادون، ويبقى الإنسان في حالة من العذاب الدائم، وبخلود لا موت فيه، خلاص منذ أن يدخلوا إلى النار، يقال أنه يُنادى: يا أهل النار خلودٌ ولا موت فيه، نعوذ بالله.
إذًا.. فلنتأمل جيدًا قبل فوات الأوان
الإنسان إذا تأمل- وهناك آيات كثيرة، ونصوص كثيرة، وكلام كثير في عذاب النار- إذا تأمله الإنسان يرى ويصل إلى نتيجة واضحة هي: أنه من ما من شهوة، ما من رغبة في هذه الدنيا تستحق منك أن تضحي لتصل إلى نار جهنم، وما من مخوفٍ في هذه الدنيا: قوة عسكرية، طاغية، أو متجبّر، دولة ظالمة، جهة متجبرة في هذه الدنيا، مهما كان جبروتها، وإمكاناتها، وقدراتها العسكرية، تساوي شيئًا أمام جبروت الله، يستحق أن تطيعها، تخنع لها، تخضع لها في الباطل؛ فتصل بنفسك إلى عذاب الله، إلى جهنم، كل ما في الدنيا ما شيءٌ منه لا في خيره ولا في شره يستحق منك أن تخسر وتضحي فتكون من أصحاب النار والعياذ بالله. لا أبدًا، لا جانب الخير في هذه الدنيا، يعني: الرغبات، الأطماع، الشهوات، الأشياء النفسية، ولا جانب الشر. فالإنسان بحاجة أن يركِّز في القرآن الكريم ويتأمل جيدًا.
طبعًا ركَّزنا على النص القرآني؛ لأنه الموثوق دائمًا، الذي لا شك فيه ولا ريب فيه، البعض من الأحاديث مُختَلَف في صحتها من عدم صحتها، والمسألة مسألة غيب، والذي نؤمن به كغيب يجب أن يكون مما نطمئن إلى صحته ونثق بصحته، وهو القرآن الذي لا ريب فيه.
اعتمدنا على النص القرآني، عرضنا بعضًا، القرآن فيه الكثير والكثير، نحن في هذا الشهر المبارك يستطيع الإنسان أن يتأمل، من المهم للإنسان أن يرسِّخ إيمانه بالوعد والوعيد.
نتحدث- إن شاء الله- في الكلمة القادمة عن الجنة وجزاء المؤمنين، المتقين، المفلحين، الفائزين.
نسأل الله -سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى- أن يوفقنا لما يرضيه عنا، وينجينا به من سخطه وغضبه وعذابه وانتقامه، أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، ويفرِّج عن أسرانا، وينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛