المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 7 رمضان 1439هـ
القيامة.. الحدث الرهيب المهول!
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وصلنا إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-2]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ): نداءٌ من الله -سبحانه وتعالى- من رب العالمين، من ملك السماوات والأرض، من مدبر شؤون السماوات والأرض، يوجه هذا النداء إلى كل عباده، إلى البشرية بكلها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، الجميع يُنادَون بهذا النداء، ويُؤمرون بهذا الأمر من الله -سبحانه وتعالى- {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}.
فما أعظم وما أسوأ مستوى الغفلة التي تعيشها البشرية، وتغفل عن حساب ما بينها وبين الله -سبحانه وتعالى- في تصرفاتها وأعمالها، وفي توجهاتها في هذه الحياة، الكثير الكثير في أعمالهم، في تصرفاتهم، في مواقفهم لا يحسبون حساب الله أبدًا، ولا حساب المسؤولية فيما بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى- أبدًا، ولا كأن لهم ولهذا العالم بكله ربٌ وملكٌ وإلهٌ خلق الجميع، ويرقُب الجميع، ويحاسب الجميع، ويجازي الجميع، وكأن هذه الحياة مسرحًا للعبث وللأهواء، وليس كأن الجميع في مقام المسؤولية وموقع المسؤولية، ومقام الحساب والجزاء الذي لا بد منه، وسيأتي، جزءٌ منه يأتي في الدنيا، والكبير والعظيم منه يأتي في الآخرة.
حالة الغفلة عن الله -سبحانه وتعالى- وكأنه لا يجازي، ولا يحاسب، ولا يعاقب، حالة خطيرة جدًّا على البشر بشكلٍ كبير في كثيرٍ من أنحاء المعمورة، الإنسان، أيًا كان هذا الإنسان بحاجة إلى أن يرسِّخ في نفسه الإيمان بأن الله يعاقب، وأن الله يجازي، وأن الله شديد العقاب، لا أشد ولا أقسى من عقابه، وأن عقاب الله وعذاب الله يجب أن يُتقى وأن يُحذر، أمرٌ كبير، أمرٌ فظيع، أمرٌ عظيم، ليس بالمستوى الهين، ولا بالمقدار البسيط الذي يمكن للإنسان ألا يبالي به، أن يتهاون بشأنه، أن يتجاهله. |لا|، وليس هناك شيءٌ في المقابل يستحق من هذا الإنسان من أجل الوصول إليه، أو الحصول عليه، أن يضحي بهذا المقدار من التضحية، يعني: أن يُعَرِّض نفسه لعقاب الله، لعذاب الله، من أجل شهوةٍ معينة، من أجل رغبةٍ معينة، من أجل تلبية انفعالٍ نفسيٍ معين، أي شيءٍ من ملذات هذه الحياة، أي شيءٍ من شهوات هذه النفس، أي شيءٍ من انفعالات النفس والدوافع داخلها، لا يرقى أبدًا إلى مستوى أن تضحي للوقوع ثانية واحدة في نيران جهنم، أو لحظة واحدة في عذاب الله -سبحانه وتعالى-.
شدة عقاب الله بمستوى عزته!
والله شديد العقاب، كم في القرآن الكريم ورد التأكيد على هذه المسألة، الحديث عن الله -سبحانه وتعالى- بهذا، الوصف له -سبحانه وتعالى- بأنه شديد العقاب، الحديث عنه بأن عذابه شديد: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: الآية12]، {وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: من الآية98]، آيات كثيرة تتحدث عن شدة العقاب الإلهي.
وشدة عقاب الله -سبحانه وتعالى- أولًا: لقدرته وجبروته، قدرة هائلة جدًّا، قدرة لا حدود لها، يقدر على أن يصنع من الأحداث وأن يصنع من العذاب ما لا يستطيع أي بشر أبدًا أن يتخيله، بمستوى القدرة الإلهية التي لا حدود لها أبدًا، يجعل العقاب شديدًا وشديدًا وشديدًا ومَهُولًا، بمستوى عزته، فهو عزيز، وهو ذو انتقام، ومن عزته ومنعته وانتقامه أنه لن يتهاون تجاه الذين أساءوا من عباده، أساءوا حسابه، أساءوا موقفهم منه، فلم يقدِّروه، ولم يبالوا به، الكثير منا في هذه الدنيا كم حسب حساب الناس، كم خاف من الناس، الكثير من البشر في هذه الدنيا لخوفهم من بشرٍ مثلهم، من أناسٍ مثلهم، مما بيد البعض من الناس من إمكانات أو قدرات عسكرية أو غيرها، خافوا منهم، وخضعوا لهم، وأطاعوهم في الباطل، وتوددوا إليهم بالباطل، وأذعنوا لهم طوعًا وكرهًا، وخضعوا لهم خضوعًا كاملًا ومطلقًا.
طاغية من البشر بصفة رئيس، أو ملك، أو أمير، أو قائد، له قوة عسكرية معينة، له قدرات عسكرية معينة، له سجون، له إمكانات معينة، كم يقف الكثير من البشر أمام ذلك الطاغية خائفين مذعورين وخانعين ومطيعين له، يسوقهم نحو الباطل، يسوقهم في الظلم، في الضلال، في الفساد، ويسير بهم فيما هو يشكِّل خطورةً عليهم؛ فيذعنون، ويخنعون، ويخضعون.
إمكانات أو قدرات معينة لدى جهة هنا أو جهات هناك، مثلًا: ما تمتلكه اليوم أمريكا، وما تمتلكه إسرائيل، بعضًا من الأسلحة، من العتاد الحربي العسكري، بعضًا من القنابل أو الصواريخ التي تحدث فجوة بسيطة في الأرض تجعل الكثير ترتعد فرائصهم منها، ويذعنون لها، ويطيعونها، ويخنعون لها، ويسيرون في فلكها، ويقبلون أوامرها، ويذعنون لها إذعانًا كاملًا، ولكن أمام الله، أمام جبروته، أمام قدرته، ملك السماوات والأرض، الذي خلق هذا العالم من العدم، الكثير من الناس يغفل عن الله -سبحانه وتعالى- فلم يخف عقاب الله ولا سطوة الله، ولم يبال بالله -سبحانه وتعالى- عصى أمر الله، وخالف توجيهاته وأذعن للآخرين، وأطاع الآخرين، وآثر طاعتهم، آخرين من الجبابرة، والطواغيت، والظالمين، والمفسدين من أولياء الشيطان، فخنع لهم، وخضع لهم.
خطر الغفلة والتجاهل لوعيد الله!
والبعض أيضًا غفل عن الله -سبحانه وتعالى- عن عقابه، عن عذابه، عن وعيده، وكأنه وعيد من عاجز، ذلك الوعيد المتكرر في القرآن الكريم، تلك التحذيرات المتكررة في القرآن الكريم، ومنها هذا التحذير: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}، {اتَّقُواْ اللّهَ}، آيات كثيرة تكرر فيها التحذير والإنذار والوعيد، وكأن كل تلك التحذيرات، كل ذلك الوعيد المتكرر، كل تلك التحذيرات المتكررة، كل ذلك الإنذار كأنه من جهة عاجزة، ضعيفة، لا تملك شيئًا، ولا تقدر على صنع شيء؛ فلم يكترث البعض، ولم يبال البعض، ولم يلتفت البعض، ولم تهتز فيه شعرة. هذه الغفلة، هذا التهاون، هذا التجاهل، هذه اللامبالاة تجاه تحذيرات الله وإنذاراته، ووعيده المتكرر في القرآن الكريم تُغضِبُ الله، الله عزيز، لن يسكت، لن يتغاضى، لن يتجاهل من تجاهلوا إنذاره، من نظروا إلى كل ذلك الوعيد المتكرر نظرة اللامبالاة، نظرة التهاون، نظرة الاستصغار، والبعض بالتكذيب، وكأن الأنبياء كذبوا على الله، وكأن كتب الله ليست منه، أو كأن الله -سبحانه وتعالى- حكى مع عباده عبثًا وقال لهم شيئًا لا يفعله.
حجة الله علينا يوم القيامة جميعًا نحن البشر أنه قد قدَّم إلينا بالوعيد في هذه الدنيا، وأنذرنا في هذه الدنيا، ولدرجة أنه قدَّم كثيرًا من التفاصيل التي ستحدث حين قيام الساعة، حين قيام القيامة، وأثناء الحساب ومراحل الحساب، وأثناء الانتقال إلى الجزاء من ساحة المحشر، كل هذه التفاصيل لماذا يخبرنا الله بها؟ ويحكيها لنا؟ ويبينها لنا؟ لننتبه اليوم، لنحذر الآن في هذه الحياة، لنتنبه، ولذلك نجد حينما يقول هنا في هذه الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: الآية1]، هو لهذا الهدف: أن تأخذ العبرة الآن، أن تخاف من الآن، أن تحذر الآن، أن تنتبه في هذه الحياة، فلا تغفل حتى تأتي تلك الأحداث المهولة العظيمة، وإذا كان الإنسان لم يأخذ العظة والعبرة من كثيرٍ من الأحداث في هذه الدنيا التي كان فيها تجليات لعقاب الله -سبحانه وتعالى- على مستوى أمم وأقوام في الزمن الماضي ممن حكى الله قصتهم في القرآن الكريم: قوم نوح الذين أغرقهم، وقوم عاد الذين أهلكم، ثمود، أقوام أخرى، فرعون… ثم عبر التاريخ بكله، ما سجله التاريخ: دول، امبراطوريات كبيرة جدًّا، أباطرة، وطواغيت، وملوك، وزعماء، كان لهم قدرة عسكرية، مادية؛ هلكوا وبادوا وانقرضوا، والكثير منهم هلكوا في ظل عقوبات عاجلة في هذه الدنيا قبل عقوبات الآخرة: إما بالتسليط، إما بضربات إلهية منكِّلة وجائحة تجتاحهم من عقاب الله، وقارعة تحل بهم من عذاب الله، أقوام كُثُر، طواغيت حتى في هذا العصر، حتى في الزمن الذي أدركناه، طواغيت كبار كانوا يمتلكون إمكانات هائلة، قدرات عسكرية ضخمة، إمكانات مادية هائلة، علاقات ونفوذ وتأثير في الساحة العالمية؛ بادوا وهلكوا وانتهوا، وعاشوا حالة الذل في آخر لحظات حياتهم.
العظة والعبرة إذا لم نستفد ونأخذها مما نشاهده من الأحداث، ومما قرأناه في التاريخ من أحداث، وما يعيشه الإنسان في واقعه الشخصي، في تجربته الشخصية، ويرى في نفسه ما يعانيه في هذه الحياة، ما يحل به في هذه الحياة، والكثير منه يذكِّر هذا الإنسان بحاجته إلى الله، يذكِّر هذا الإنسان بضعفه، يذكِّر هذا الإنسان بعجزه، كم يواجه الإنسان على المستوى الشخصي، على مستوى ما يعانيه هو شخصيًا في هذه الحياة هو – فعلًا– مما يذكره بالضعف، بالعجز، بالوهن، بالحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى- ثم يغفل، الكثير من الناس قد يتعافى من مرضٍ عُضال ومن داءٍ شديد كان يعيش فيه كل الإحساس بالضعف والعجز والألم، ويحس بالشعور بالحاجة المطلقة إلى الله وإلى رحمته، ما إن يعطيه الله العافية إذا به يتنكر لكل ذلك، يمر الإنسان بمشكلة، بخطورة معينة في هذه الحياة؛ فيعيش حالة العجز، والضعف، والخوف، والشعور بالحاجة الشديدة إلى الله؛ لينقذه، ليغيثه، يغيثه الله -سبحانه وتعالى- ينقذه من ذلك المأزق، من تلك اللحظة الحرجة، من ذلك الظرف الصعب جدًّا، يعود من جديد إلى حالة الغفلة، كم تجارب كل إنسان في حياته، ثم يعود يغفل من جديد، يغفل من جديد، يقسو قبله من جديد، يعيش حالة الغفلة الرهيبة عن الله -سبحانه وتعالى- عن الحساب، عن الجزاء من جديد.
القيامة.. الحدث الرهيب المهول!
{اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} إذا كنتم نسيتم كل ما قد عايشتموه من التجارب في حياتكم، مما يشعركم بالضعف والعجز والحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى- مما يساعدكم على تعزيز حالة الخوف من الله -سبحانه وتعالى- والافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى- إلى رعايته، إلى حمايته، إلى دفاعه، إلى أن ينقذكم، أن يغيثكم. ضعفكم في مقابل سخطه، عقوبته، قدرته، جبروته، عذابه، إذا نسيتم كلما كان في الحياة على مستوى واقع الإنسان الشخصي، وواقع الحياة من حوله، والتاريخ من قبله، فأمامكم في المستقبل هذا الحدث العظيم الهائل الكبير، هذا الأمر المهول جدًّا، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ): القيامة، وهذا الحدث الرهيب والهائل، الآتي القادم والقريب، تحدث القرآن الكريم عنه حتى التسميات بتسميات مزعجة، تسميات كبيرة، هائلة، عبارة: القيامة، الساعة، الحاقة، الصاخة، الواقعة، الطامة الكبرى… تعبيرات كثيرة في القرآن الكريم تنبهنا إلى عظم هذا الحدث الهائل.
يوم القيامة الآتي حتمًا للحساب والجزاء للبشرية بكلها هو يومٌ عظيم، هو يومٌ عظيم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود103-104]، أجل سينقضي ويأتي. يوم القيامة يوم الحساب ويوم الانتقال إلى الجزاء، يأتي بحدثٍ هائل ينهي وجود هذا العالم، ويدمِّر هذا العالم بكله، وفي المقدمة الأرض التي نعيش عليها، مهد البشرية، التي عليها استقرار البشرية وحياتهم منذ وجود آدم -عليه السلام- وهذا الزلزال العظيم الذي به دمار هذه الأرض بكلها، وليس دمار منطقة بسيطة منها، أو مساحة محدودة، أو دولة أو قُطر هناك، أو أن تكون نسبة هذا الزلزال لدرجة خراب المنازل وتضرر الممتلكات. |لا|، شيءٌ عظيم؛ لأنه زلزال يصل إلى درجة التدمير لهذا العالم، يصل إلى درجة النسف للجبال بكلها.
إن حجم هذا الهول أمام ذلك الزلزال العظيم هو للدرجة التي عبّر عنها القرآن بقول الله -سبحانه وتعالى-: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: الآية2]، إن حالة الذهول وحالة الرعب أمام ذلك الزلزال العظيم الذي تهتز له كل الأرض، وتنسف منه كل الجبال، وتتبخر منه كل البحار، ويدمر فيه كل هذا العالم بأسره، في بداية هذا الزلزال المهول العظيم حالة الذهول، حالة الرهبة، حالة الخوف، حالة الفزع، حالة الدهشة، لدرجة أن تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت، الأم المرضعة التي هي أكثر شيءٍ إشفاقًا وعلاقةً وحميميةً ورأفةً- في واقع البشر وفي واقع الكائنات الحية- برضيعها الصغير، الذي هي عادةً حتى عند الفزع، أو عند القلق، تبادر لاحتضانه، وتبادر لتفقده، وتحرص على الانتباه له، لكن أمام هذا الحدث العظيم. |لا|، تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت.
لو نلحظ مثلًا- على سبيل المثال– قصة القصف الجوي الآن في الدنيا- مثلًا- ترى في كثيرٍ من مشاهد القصف الجوي الذي استهدف المنازل حتى في العدوان الأمريكي السعودي على بلدنا وشعبنا المسلم العزيز، في كثيرٍ من حالات القصف الجوي لكثيرٍ من المنازل- مثلًا– والأسر، ملحوظ أن الأمهات عند الإحساس بهذا الخطر يبادرن إلى احتضان أطفالهن الصغار، بالذات الرضع، وتجد مشاهد متعددة للقصف الجوي وترى الأم وقد استشهدت هي ورضيعها وهي تحتضنه، استشهدت مع رضيعها وهي تحتضنه، بادرت عند الإحساس بالخطر، هذه فطرة، وهذا شيء قائم في واقع الحياة، لكن بالنسبة لهول زلزال القيامة وزلزلة الساعة المسألة مختلفة، هو لدرجة من الذهول والعظم والرهبة والفزع أن كل إنسان ينسى الآخرين، هو مشغولٌ بنفسه، حالة الرعب والفزع والاندهاش لدرجة أن لا ينتبه لأي شيءٍ آخر، وأن لا يقلق على شيءٍ آخر، مستوى القلق على النفس، والذعر، والخوف، والرعب على النفس ينسي الإنسان، وينسي الأم حتى رضيعها، أما كل ذات حمل فتسقط حملها، كل ذات حمل، كل امرأة، كل كائن حي حامل يسقط حمله، من الدهشة والرعب والرهبة الشديدة.
الناس في أول هذا الحدث المهول والمهيب والعظيم يكونون في مستوًى رهيب من الذهول وكأنهم سكارى، وكأنهم فقدوا عقولهم، فقدوا تركيزهم، اندهاش شديد جدًّا، يفقدون معه القدرة على التمييز، القدرة حتى على قراءة هذا الحدث، [ما الذي يحدث؟! ما الذي يحصل؟!]، حالة من الذهول الشديد جدًّا، يفقد الإنسان قدرته على التماسك الذهني والنفسي، ويندهش لدرجة وكأنه سكران، فاقدٌ لتمييزه، فاقدٌ لإدراكه، عاجزٌ عن قراءة وفهم ما يحدث، {وَمَا هُم بِسُكَارَى}. |لا|، هي حالة اندهاش، ذهول، رهبة، فزع شديد جدًّا، فقدوا إدراكهم، وتماسكهم الذهني، وتماسكهم في التفكير والفهم والنظرة.
الزلزال النهائي الهائل!
يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: الآية1]، زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ بكلها، وليس فقط منطقة معينة، (زِلْزَالَهَا): زلزالها الموعود، زلزالها النهائي، زلزالها الذي يُحدِث تغييرًا كليًا لها، زلزالها الذي ينسف جبالها الكثيرة جدًّا والهائلة والعظيمة، زلزالها الذي يحوِّل تلك الصخور الصلبة في تلك الجبال إلى فُتَاتٍ، إلى ذراتٍ متناثرة، إلى غُبَارٍ يتطاير في الجو، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 2-3]، يندهش، ولا يستوعب ما يحدث أبدًا.
في آيةٍ أخرى يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: الآية1]، الحادثة الرهيبة الكبيرة العظيمة جدًّا (القيامة) {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: الآية2]، أمرٌ لا بد منه، {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: الآية3]، يتغير واقع الناس كثيرًا وكثيرًا جدًّا، فينخفض قومٌ، وينخفض أُناسٌ، وتنخفض شخصيات، ويرتفع آخرون، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} [الواقعة: 4-6]، (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ): إن حالة الاهتزاز وكأنك أخذت شيئًا ترجه وترجه وترجه، حالة اهتزاز عنيفة جدًّا جدًّا جدًّا، فالأرض بكلها تعيش حالة (أو تشهد حالة) من الاهتزاز والارتجاج العنيف جدًّا، الذي يصل بالجبال في الأرض، وهي أثقل شيءٍ في الأرض، وأكبر شيءٍ في الأرض، وأصلب شيءٍ في الأرض، وأكثر شيءٍ في الأرض تماسكًا، إذا جئنا لنضرب المثل بثبات أي شيء نضرب المثل بالجبال (ثابت ثبات الجبال)، الناس يقولون في أثناء هذا العدوان: [شعبنا اليمني يثبت ثبات جبل نقم، وعطان… وإلى آخره]. يُضرب في الدنيا المثل بثبات الجبال. الجبال: كُتل هائلة، كبيرة، منغرسة في أعماق الأرض، قوية التماسك، البعض منها بكله كتلة صخرية، والبعض منها معظمه أو جزءٌ كبيرٌ منه كتلة صخرية مغطى بالطين، وكثيرة في الأرض، لدرجة أن كثرتها في الأرض، وثباتها في الأرض، وعمقها في الأرض، هي تنزل إلى أعماق الأرض، وتجذرها في الأرض، وثقلها وقوتها في الأرض، هو أهم عامل لتماسك الأرض من حالة الاضطراب والاهتزاز، وإلا الأرض من جانب الجاذبية، ومن جانب البحار والمحيطات التي تغطيها، تغطي مساحة كبيرة منها، ما يقارب مساحة الثلثين منها، لولا هذه الجبال (الكتل الهائلة في الأرض)، لكانت الأرض تعيش حالة اضطراب (اهتزاز)، فالله جعل الجبال في الأرض كما قال في القرآن: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: من الآية15]، يعني: كي لا تميد بكم، كي لا تضطرب وتبقى مرتعشة وفي حالة اهتزاز وعدم استقرار بكم، الأرض لها حركتها، ولكن ضمن واقعٍ مستقر ومنتظم، وليس في حالة اهتزاز واضطراب، ولكن هذه الجبال (بُسَّت) فُتتت من شدة هذا الاهتزاز والارتجاج العنيف، ذلك الزلزال الرهيب يفتت تلك الجبال حتى تتحول أقوى الصخور فيها وأعظم الصخور فيها، وحتى الجبال التي هي بكلها كتلة صخرية تتفتت الصخور بالكامل، وتتحول إلى ترابٍ مسحوقٍ ناعمٍ ينتشر في الهواء، ولذلك يقول في آيةٍ أخرى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: الآية3]، إذا الجبال خلاص سُيِّرت في الجو، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: من الآية88]، تنطلق في الأجواء متناثرة عابرة وكأنها سحب سحقت بدرجة هائلة جدًّا وقوية للغاية وعنيفة جدًّا، ثم طارت في الهواء وكأنها سحاب، كأن ذلك الجبل تحول إلى سحابة معينة تطير في الجو. يقول الله -سبحانه وتعالى-: {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً}، هذه الجبال بعد أن فتتت تتحول إلى هباء، والهباء: هي تلك الجزئيات التي تُشاهد في ضوء الشمس إذا دخل من نافذة معينة جزئيات صغيرة جدًّا تتطاير في الجو.
يقول في آية أخرى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا…} [الحاقة: 13-17]، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ)، وهناك آيات متعددة تحدثت عن صيحة القيامة بهذا التعبير: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ}، صيحة القيامة، الله أعلم هل هي موجه صوتية هائلة جدًّا، أم ماذا؟! هذا أمرٌ وتفاصيل لا نحتاج إلى الحديث عنها، كيف هي، لكن هذا الحدث الهائل تُحمل الأرض معه والجبال فتدك، وهذه العبارة قلنا في محاضرة سابقة (فَدُكَّتَا) أنها قد توحي أن الأرض تتعرض أيضًا لضربات من كواكب أخرى، أو نجوم أخرى، أو قطع من الأجرام السماوية تضربها بشكل كبير، هذا مفهوم الدك للشيء، ولأن القيامة يفقد فيها العالم بكله ما فيه من: كواكب، ونجوم، وأجرام سماوية، تفقد تماسكها الذي هي الآن عليه، التماسك الذي هي الآن عليه تفقده تمامًا، تندثر الكواكب والنجوم وتضطرب، ويضرب بعضها بعضًا، فربما يحصل للأرض حصتها من ذلك.
مصير الأرض في يوم القيامة
يقول أيضًا عن الجبال نفسها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: الآية105]، البعض سألوا رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ما هو مصير هذه الجبال يوم القيامة، هذه الجبال الكثيرة، الهائلة، القوية؟ {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}، ينسفها نهائيًا، لا يبقى لها وجود {فَيَذَرُهَا} يعني: الأرض {قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} [طه: 106-107]؛ لأن الأرض في البداية هي سويت على نحوٍ معين لتلاءم معيشة هذا الإنسان وحياة هذا الإنسان عليها، فالله جعلها بالشكل الذي جعلها عليه، وبسطها لهذا الإنسان، ومكورة في نفس الوقت، وجعل عليها البحار، والأنهار، والنباتات، وقشرتها الأرضية خصبة، ملائمة للإنسان… كل شيءٍ فيها بما يلائم هذا الإنسان، ويناسبه، ويخدم حياته، ويساعده في حياته، ويلبِّي غرضًا لهذا الإنسان، حاجةً لهذا الإنسان.
لكن يوم القيامة هناك إعادة لصياغة الأرض من جديد ليكون لها دورٌ آخر، ليس ليعيش عليها هذا الإنسان حياةً مستقرةً يتحمل فيها مسؤولية، يحظى فيها بنعم الله، الأرض تُدمَّر كليًا آنذاك، وتُعد إعدادًا جديدًا لمهمةٍ أخرى غير مهمة الحياة والمعيشة، مهمة الحساب، مهمة مؤقتة.
طبعًا البعض في مواقع التواصل الاجتماعي، في الانترنت، في الشبكة العنكبوتية ينشرون أفكارًا وتصورات عن القيامة والآخرة والجنة والنار لا صحة لها أبدًا، لا تتفق مع القرآن الكريم بشيء، ولا مع النصوص النبوية- عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- بشيءٍ آخر، لا تمت بأي صلة إلى كتب الله، تصورات خرافية، وهذه الأحداث هي غيبية، إنما نعود فيها إلى الإيمان بالغيب، وإلى ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- إلى ما صح أيضًا عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- متوافقًا مع القرآن، أما غير ذلك من التخمينات والخرافات لا يجوز أن يُعتمد عليه أبدًا، تصورات حتى عن الأرض يوم القيامة، عن الجنة، يأتي البعض يقول لك: [الجنة ستكون على جانب من الأرض، والنار على جانب آخر، وتغيرات مناخية تحصل، ومدري أيش…] |لا|، النصوص القرآنية واضحة، هذا الدمار الهائل للأرض، ونسف ما فيها من الجبال، وانتهاء ما فيها من بحار: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: الآية3]، وآية أخرى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: الآية6]، نصوص واضحة عن دمار كلي للأرض، وتسوية لها لدورٍ آخر {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: الآية3]، يقول هنا: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} يعني: الجبال، {فَيَذَرُهَا} يعني: الأرض، {قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} يعني: قاعًا مستويًا، قاعًا قاعًا، (حَدَبَة) حسب التعبير المحلي، أو أرضية مستوية تمامًا ليس فيها أي منخفضات ولا أي مرتفعات، وليس فيها أي شيء آخر، أيّ مظهر من مظاهر الحياة؛ لأنها لن تبقى للحياة أصلًا، لن تبقى لاستقرار الإنسان أصلًا، بقي دور واحد للأرض، هو: الحساب عليها، أن تتحول إلى ساحة مستوية للحساب، ولهذا قال: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}.
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} تُمَدّ وتُبسط وتتحول إلى ساحة وعرصة واحدة، وساحة مستوية تمامًا، لم يبق فيها لا جبال ولا أي شيء {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: الآية4]، تُخرِج كل ما داخلها، حتى ما قد حملته من مليارات البشر أصبحوا داخلها ترابًا، تخرجهم ليعودوا إلى الحياة من جديد.
العالم من حول الأرض بكله أيضًا ينتهي {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 1-3]، كل ذلك ينتهي، الحياة البشرية من أول ما تقوم القيامة تنتهي بشكلٍ كامل، يموت كل من بقي من الأحياء (من البشر) يموتون بأجمعهم وبكلهم، والله أعلم كم سيكون تعداد البشرية عند قيام الساعة، كم سيكون عدد السكان على الأرض؟ هذا أمرٌ غيبي {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [الزمر: الآية68] كلهم ماتوا. آياتٌ أخرى، البعض منها استثنت {إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}.
فهذا الحدث الهائل يجب أن يحسب الإنسان حسابه، هذا حدثٌ نحن قادمون عليه، الساعة آتية لا ريب فيها، القيامة آتية لا شك فيها، الإنسان قادم على كل هذه الأحداث المهولة التي ليست سوى ترتيبات تمهِّد لدخول عالم الحساب وعالم الجزاء، لو لم تكن المسألة إلا مستوى الذعر والرعب والفزع من تلك الأحداث كأحداث وتنتهي، كان لا بأس, يعني ما هي مشكلة، مع أنه أمر يستحق من الإنسان أن يتقيه، أن يحسب حسابه، أن يسعى أن يكون آمنًا حينما يحدث (وهو الفزع الأكبر)، ولكن كل هذه الأحداث المهولة والعظيمة والرهيبة إنما هي بداية ترتيبات لأمرٍ عظيم، لأمور كبيرة، لأمور مهمة.
الصيحة الثانية.. عودة للحساب والجزاء
تأتي الصيحة الثانية {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}، {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: الآية53]، الصيحة الثانية الله أعلم كم ستكون المدة الزمنية ما بين قيام الساعة ودمار هذا العالم وخرابه -قيام القيامة وهلاك البشرية (المتبقين من البشر) وموتهم بكلهم- وبين النفخة الثانية والبعث والنشور، وعودة الحياة لكل الكائنات، إلى البشر جميعًا، وعودتهم للحساب والجزاء.
تأتي الصيحة الثانية وقد تغير كل هذا العالم، وباتت الأرض بشكلٍ آخر مختلف تمامًا {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: من الآية48]، أرض ثانية، لم تعد ذلك الكوكب الذي عرفناه، عشنا عليه بجباله، بسهوله، بوديانه، بعمرانه، بمدنه، بقراه… ساحة لا فيها لا جبال، ولا أنهار، ولا نباتات، ولا أشجار، ولا مزارع، ولا بيوت، ولا مدن، ولا قرى، ولا أي مظاهر عمرانية، ولا أي شكل من أشكال الحياة، مجرد ساحة مستوية وممتدة، يُبعث فيها البشر بكلهم، منذ آدم إلى آخر مولودٍ من بني آدم، الجميع يحشرون بكلهم، جُمِعوا لذلك اليوم وحشروا فيه، كل الأجيال، ومختلف الأجيال التي عايشت ظروفًا مختلفة، وأزمانًا مختلفة، وواقعاً مختلفًا، كلهم حشروا، كما يقول الله -سبحانه وتعالى- {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: من الآية47] ولا واحد اختفى، ولا واحد يغيب عن ذلك المشهد، الجميع يحضُر، والجميع يُحضّر، والجميع يُحشر، والجميع يخلقه الله -سبحانه وتعالى- ويأتي به إلى ساحة القيامة {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}، السماوات أيضًا دُمِّرت، غُيِّرت، بُدِّلت، وتنزل أفواج الملائكة من السماوات إلى هذه الساحة ولها أدوار كبيرة في تنظيم البشر وترتيب حالة الحساب والجزاء.
يقول الله -سبحانه وتعالى- عن مشهد الحشر والقيامة: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [مريم: الآية93] الجميع الكل بأجمعهم {إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، الكل آتٍ بصفته الحقيقية، صفته الحقيقية: عبد لله، مملوك لله، تحت سلطان الله وقهره وقوته وقدرته، ما أحد أبدًا يستطيع أن يُعظِّم نفسه ويفلت ويخرج من تحت سلطان الله -سبحانه وتعالى- {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: من الآية16]، ما أحد سيأتي بصفة (الملك الفلاني)، جنوده يشكِّلون حمايةً له، قدراته يقوم بعمل عروض لها في ساحة المحشر. |لا|، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، ما هناك أي صفات أخرى، حتى الذين ألَّههم البعض في الدنيا، خلاص انتهى كل شيء، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 94-95]، الإحصاء والحصر الإلهي والعد لكل واحد، فما غاب أحدٌ منهم، ولن يختفي أحدٌ منهم، ولن يضيع أحد منهم، الجميع أتى، وبهذه الصفة: (بصفة العبودية)، وبحالة فردية: كلٌ يرى نفسه لوحده، ليس له أعوان، ليس له أنصار، لا يمتلك قدرات، ولا أحد يمكن أن يفيده بشيء، ولا يمكن لأحد أن يقف إلى جانبه، ولا أحد يمكن أن ينفعه بشيء {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: الآية19]، {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، الجميع (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا): لدى الله -سبحانه وتعالى- في محضر الله للحساب والجزاء {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: الآية54].
حديثنا- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة عن أجواء الحشر والحساب إن شاء الله.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه عنا، أن يجعلنا من عباده المتقين، أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛