المحاضرة الرمضانية الثانية والعشرون للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 27 رمضان 1439هـ
مع عباد الرحمن في سورة الفرقان
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}[الفرقان: الآية67]، سياسة الإنفاق لدى عباد الرحمن، لدى المؤمنين، لدى المتقين، سياسة حكيمة ورشيدة، فهم ليسوا مستهترين في عملية النفقات والتصرف المادي، ينطلقون من واقع الرشد، بدافع الحكمة، بميزان الحكمة، ويتصرفون بطريقة مسؤولة، وهناك جوانب مهمة نتحدث عنها فيما يتعلق بهذا الشأن:
أولًا: هم ليسوا مترفين، حالة الترف حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، وتؤدِّي إلى أن يكون تصرفه المادي غير متزن، ولا حكيم، ولا مسؤول، بل نفسيته، اتجاهه في الحياة يغلب عليه الاندفاع الشديد والتركيز الشديد جدًّا على تلبية رغبات النفس وشهواتها إلى أقصى حد، الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى حذَّر من الترف في القرآن الكريم، وكثيرٌ من الناس، بالذات ذوي اليسر، والكثير من الطامحين من الفقراء الذين- في النهاية- البعض يفعل أي شيء في سبيل أن يصل إلى الترف، المسألة خطيرة جدًّا، عليهم أن يعوا خطورة هذا الموضوع عليهم.
حديث القرآن الكريم عن الترف والمترفين
في القرآن الكريم الحديث عن الترف والمترفين حديث مخيف، الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى عندما تحدث عن أصحاب النار في سورة الواقعة فقال جلَّ شأنه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}[الواقعة: الآية41]، هؤلاء أصحاب النار، {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}[الواقعة: 42-44]، حالة رهيبة جدًّا من العذاب، {فِي سَمُومٍ}: ما هناك في داخل النار أكسجين أو ريح باردة يرتاحون بها، حتى الهواء الذي يستنشقونه في النار حار جدًّا (سَمُومٍ)، {وَحَمِيمٍ}: الشراب الذي يشربونه، كل شيء هناك حار جدًّا، الماء الذي يشربونه حميم يقطع الأمعاء من شدة حرارته، {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ}: الظل الذي يحاولون أن يستغيثوا ويفروا إليه ليستظلوا به، ما هو هذا الظل؟ (وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ): هذا الظل إنما هو دخان كثيف يتصاعد من نار جهنم، وفي داخله الكثير من اللهب الشديد، كما قال الله عنه: {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}: ليس فيه ما يخفف عنهم ما يعانونه من الحر، وإنما يزيد في عذابهم، ويزيد فيما يعانونه من الحرارة الشديدة في نار جهنم “والعياذ بالله”.
أول صفة وصفهم بها في هذه الآيات، في هذا السياق، قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}[الواقعة: الآية45]، لاحظوا، هذا أمر مخيف جدًّا، (إِنَّهُمْ كَانُوا): في الدنيا هذه، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}، هذه أول صفة من صفات متعددة وصفهم بها، لكن أول صفة: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}، المترف في هذه الدنيا كل همه، كل تركيزه، كل توجهه النفسي هو أن يبلغ أقصى حد في إمتاع نفسه، في توفير رغبات نفسه، في التوسع في الملذات والرغبات في هذه الحياة، يصبح هذا مشروعه في الحياة، من أجله يفعل كل شيء، يتصرف أي تصرف: من أجله يظلم، من أجله يكذب بالحق، من أجله يطغى، من أجله يغش، من أجله يخدع، من أجله يتصرف أي تصرف، مهما كان محرمًا أو إثمًا، يسعى إلى الحصول على المال والثروة بأي وسيلة، حتى لو كانت وسيلةً محرمة، حتى لو كانت باستخدام الربا، حتى لو كانت بالالتحاق بصف الباطل، ومناصرة الطغاة والظالمين والجائرين والمستكبرين، حتى لو كانت بالغش والنهب والسرقة، حتى لو كانت بالفساد المالي إذا هو موظف، أو بالاختلاس مما لا يمتلكه، من حق عام، أو حق عمل، أو أي شيءٍ آخر.
ضرورة الاتزان في متطلبات الحياة
الإنسان عليه أن يحرص في تربية نفسه وفي توجهه في الحياة أن يكون متزنًا، ومتماسكًا، ومتوازنًا في متطلبات هذه الحياة، وما يريده من هذه الحياة، يركِّز أولًا على ما تقتضيه الضرورة، هناك أشياء تقتضيها الضرورة لحياة الإنسان، وليس الإنسان بملوم، ولن يحتاج في سبيل توفير احتياجاته الضرورية لن يحتاج إلى باطل، ولن يحتاج إلى حرام، ولن يحتاج إلى الدخول إلى أشياء سيئة. لا، يمكنه أن يعتمد على الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وأن يأخذ بالأسباب المشروعة، وأن يجعل ذلك جزءًا من اهتمام حياته، وأن يتقي الله؛ لأن الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى وعد عباده المتقين بالرزق، باليسر، بالخير، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: من الآية2-3]، كم في الدنيا هذه من مرزوقين، من مستوري الحال، ممن هم متقين، منضبطين، ملتزمين، ولم يورِّطوا أنفسهم في الحرام، كثير من الناس، وأمكن أن يكونوا مرزوقين، والكثير لا يربط نفسه بطموحات كبيرة، الذي يربط نفسه بطموحات كبيرة هو الذي يتعب في هذه الحياة، أو يدخل في المحذور، يريد- مثلًا– بيتًا فخمًا جدًّا، سيارة فخمة جدًّا، يلبس من أغلى الملابس، يسعى لأن يقتني أغلى الأشياء وأكبرها كلفة… وهكذا. يريد دائمًا أرفه الطعام، وأضخم الطعام، وألذَّ الطعام، حتى كلفة معيشته تتحول إلى كلفة كبيرة جدًّا، يعني: يحتاج إلى أموال كثيرة لحالته المعيشية، إذا هو- مثلًا– يمضغ القات (يخزن)، يريد يوميًا من أغلى القات، من أفخر القات، من أضخم القات، إذا هو مثلًا: في بلادنا اليمن، وإلا في غير اليمن |لا|، معهم أشياء ثانية، الحد بالنسبة للبعض في عالمنا العربي والإسلامي ليس عند هذا المستوى فحسب، البعض من المترفين يتوسع ليدخل في كل مساحات الحرام؛ من أجل الراحة، من أجل الترف.
بعض الأمراء وبعض الملوك سيجتهد في شرب الخمر؛ من أجل أن يرتاح يعني، وفي سبيل ذلك ميزانية مخصصة لجلب أفخر أنواع الخمور من باريس، من فرنسا، إلى بعض دول الخليج، في رحلات تكاد تكون يومية، ومكلفة جدًّا يعني، يتوسع إلى درجة- مثلًا– المحرمات التي تتوفر له هنا وهناك، في الرحلات السياحية، في المنتجعات، في… أمور يعني لا يحسن بنا أن ندخل في تفاصيلها, أمور فظيعة للغاية، أمور سيئة جدًّا، ما يحكى عن رحلات بعض الأمراء والملوك، سواءً في عالمنا العربي بعضهم عندما يذهبون إلى المغرب العربي، أو إلى دولة هنا أو هناك، ملايين الدولارات- في غضون أيام- يصرفونها على متعهم الشخصية، ومتطلبات الترفيه بالنسبة لهم، من: طعام، وشراب، ونساء، وأشياء رهيبة جدًّا.
البعض في دول أوروبية، تخيلوا، في دول أوروبية يذهب إنسان ينتمي إلى الإسلام، أمير، ملك، إلى دولة أوروبية، يحجز فيها منتجعًا معينًا، إما منتجعًا من منتجعات العراة، من أسوء الأماكن، ولها دلالة سلبية لا يحسن بنا الدخول في تفاصيلها، أو أماكن سياحية أثرية مشهورة، أو عصرية حديثة مشهورة جدًّا، ينفق بعضهم ثمانين مليون دولار في رغبات معينة.
أريد القول: أن الحالة رهيبة في عالمنا العربي والإسلامي في عدم الاتزان في النفقات، بدءًا من أصحاب السلطة والنفوذ، الذين كثيرٌ منهم يستغل موقعه في السلطة ليجني الكثير من الأموال يستمتع بها، يرتاح بها، يريد أن يكون له: القصور، والفلل، والأماكن الضخمة، والثروة الهائلة، والرحلات السياحية المتعددة، والأرصدة في البنوك، والا… إشباع رغباته هذه، (الترف)، يعني: المشكلة هي تعود إلى الترف، أن بعضهم مترف، يريد أن يتوسع في الملذات والرغبات، وأن يحصل في سبيل ذلك على الأموال الكثيرة والهائلة.
المترفون تصدوا لدعوة الحق عبر العصور
هؤلاء المترفون مثَّلوا مشكلة حقيقية في عالمنا العربي والإسلامي، وليس فقط في عصرنا هذا، هم يمثِّلون خطورة كبيرة في كل الدنيا، وعبر كل التاريخ، القرآن الكريم يحكي لنا عنهم، يقول الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ: الآية34]، فالمترفون كانوا يبرزون هم- دائمًا- في صد الناس عن سبيل الله، في التصدي للحق والهدى؛ لأنهم يسعون- دائمًا– إلى السيطرة والاستحواذ والاستغلال، يرون في دعوة الحق، في دعوة الأنبياء خطورة عليهم؛ لأنها تحد من نفوذهم، من ظلمهم، من نهبهم؛ لأن المترف- عادةً– هو يجبي المال من هنا أو هناك، إذا كان في موقع السلطة والنفوذ، يجبي المال من الحرام، يظلم الناس، يسرق من المال العام، ينهب…الخ. البعض لا يكون في موقع السلطة، لكن يربط نفسه بأحد في موقع السلطة، يعطيه الأموال، ويمتلك نفوذًا من خلاله، ومن خلال هذا النفوذ يلعب: يدخل في مخالفات محرمة، تصرفات تضر بالناس، تلعبات في عملية البيع والشراء، كذلك تضر بالناس، فإما أن يكون صاحب نفوذ مباشر من خلال موقع في السلطة، إما أن يرتبط بأحد في السلطة، يحظى بالنفوذ من خلاله، فيدخل في تصرفات كثيرة خطيرة جدًّا.
ولاحظوا، البعض من التجار، |لا|، البعض من التجار هو كادح، يشتغل، يتعب، لا يعيش هذه الحالة من الترف، في واقعه النفسي والشخصي، حتى أن بعض التجار يعيش حالة طبيعية في طعامه، في شرابه، أو متوسطة، يعني: لا يفرِّط، والبعض هم على العكس، يعني: يمكن أن يكون هناك تاجر بخيل، حتى على نفسه وعلى أسرته، لكن المترف لا، المترف يحاول أن يستحوذ، وفي نفس الوقت يتجه في واقع الحياة لأن يتمتع برغبات هذه الحياة إلى أقصى حد، بحسب ما يستطيع يعني، إلى ما يمكن أن يصل إليه.
فهم كانوا عبر التاريخ، حتى في التصدي للأنبياء وللمنذرين في كل زمن، كانوا من يسعون إلى التصدي لدعوة الحق ومواجهتها، يقول الله عنهم في آية تدل على خطورتهم الكبيرة على المجتمعات البشرية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[الإسراء: الآية16]، الآية هذه آية مهمة جدًّا، أولًا: أنها تشخَّص مصدر الخطر على المجتمع البشري، وهذه نقطة من أهم النقاط التي يجب أن يمتلك الناس الوعي عنها؛ لأنه- أحيانًا- يأتي إنسان في وضع طبيعي، ليس بتاجر، ليس بثري، ولا يطلب الثروة لنفسه، ولا يسعى إلى أن يكون ثريًا، ولا تاجرًا، ولا نافذًا، ولا متسلطًا، يقدِّم الحق إلى الناس، ويدعوهم بدعوة الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى إلى ما فيه خيرهم، وفلاحهم، وصلاحهم، وعزتهم، وكرامتهم، وتكون المسألة واضحة في مضمون ما يقدِّم، وفي طبيعة ما يدعو إليه، وفي طبيعة الموقف بشكلٍ عام، ثم ينزعج أولئك المترفون، أصحاب النفوذ، والسلطة، والطغيان، والثروة الهائلة التي استحوذوا عليها من حق الناس، من الحق العام، من ثروات الأمة، من خيرات الأمة، ينزعجون منه جدًّا، يتجهون لمحاربته بكل الوسائل: الدعايات يحركونها بشكل مكثف، حتى يحاول للعمل على تشويهه حتى لا يتقبل الناس منه؛ وفي النهاية حتى يترك الناس كل شيءٍ لهم، هذه هي المسألة، يريدون أن يبقى كل شيءٌ لهم: الناس، والثروة، وكل شيء لهم.
أحيانًا- ومن الظريف- أنهم قد حتى يتظاهرون بالتعاطف مع الناس، وإطلاق دعايات تحاول أن تصوِّر أنهم يتعاطفون مع الناس ويحملون همومهم، كما قلنا: البعض يذرفون دموع التماسيح، البعض- مثلًا– من أشهر النهَّابين والفاسدين واللصوص الذين يستأثرون بثروات بلد معين على مدى ثلاثين سنة، أربعين سنة، عشرين سنة، ويأتي ليقول: [الناس يعانون، ومدري ايش…]، وهو كان من أكبر الأسباب في معاناتهم، هو كان يمثِّل مشكلة حقيقية فيما يعانون منه.
المترفون هم السبب في هلاك الأمم والشعوب
فالمترفون يجب أن يعرف المجتمع عنهم أنهم يشكِّلون تهديدًا فعليًا على أمنه واستقراره، وأن سعيهم الدائم للتصدي للحق، ودعاة الهدى والحق، والساعين لإنقاذ الناس، إنما يشكِّل خطورة كبيرة على المجتمع، وليس بدافع حرص على المجتمع، عندما يتصدون لدعاة الحق ليس بدافع حرص على المجتمع، إنما يريدون أن يستمروا في حالة الاستغلال والسيطرة.
اليوم لا ينبغي لأحد أبدًا أن يأتمن النظام السعودي، ولا النظام الإماراتي أبدًا، في أنهم يريدون أي خيرٍ لهذه الأمة، هؤلاء هم المترفون الذين يستحوذون على ثروات الأمة، الذين كان من الممكن بما يقتنيه شخص منهم، من أمرائهم، أن يكون مصدر حلٍ لمشكلة فقر شعب، يعني: ما يمكن أن يقتنيه أمير من أمرائهم لو يكون لمصلحة شعب بأكمله لحل مشكلة الفقر فيها، من أين؟ من ثروات الأمة، أخذوه من ثروات الأمة، أولئك المترفون يشكِّلون خطورة على المجتمعات، بفسقهم، بفجورهم، بطغيانهم، بظلمهم، يتسببون في تنغيص عيش المجتمعات، وتدمير حالة الأمن والاستقرار فيها، {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}.
لاحظوا- يا أخوة ويا أخوات– نحن في هذا الشهر الكريم من أهم وأعظم ما يجب أن نحرص عليه، هو: الاستفادة من القرآن الكريم في أن نحمل الوعي، وتجاه قضايا رئيسية، هناك قضايا رئيسية في واقع هذه الحياة، وقضايا مصيرية، وقضايا مهمة للغاية، مهمة للغاية، امتلاك الوعي فيها يحمي الإنسان من الضلال، يحميه من الضياع، يحميه من الخسران، والذي ينقص مجتمعنا الإسلامي هو أنه لم يستفد من القرآن الكريم كما ينبغي، يكون هناك حقائق كبيرة، مهمة، فاصلة، تحدد لك مصيرك في هذه الحياة، ومسارك في هذه الحياة، لا تلتفت إليها، وقد قدَّمها لك القرآن بشكلٍ واضحٍ وبيّن، ولكن لأن الإنسان لم يلتفت إليها؛ يصبح ضحية للاستقطاب والإغواء والإغراء والاستمالة، فإذا به يتجه في مساره في هذه الحياة في صف أولئك.
هذه الآية، عندما يقول الله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}، تقدِّم بكل وضوح أن سبب هلاك الأمم والشعوب والمجتمعات هم المترفون، البعض- الآن مثلًا– في بلدنا عندما يشوف هذه الأحداث، والمآسي، و… [الله يصيب المسبب، من كان سبب الله ينتقم منه!!]، القرآن يعلمك من هم السبب في كل المحن والكوارث في كل البلدان، السبب المترفون، النظام السعودي والنظام الإماراتي هم أترف هذه الأمة، هم في حالة من الترف الرهيب جدًّا، مال وسلطة يتنعمون من خلالهما، يبطرون من خلالهما، يتجهون في كل ما يلبِّي رغبات أنفسهم، ويعززون هذا النفوذ وهذا التسلط ليصبح متعة لهم في حياتهم.
آثار الترف على المستوى النفسي
فالترف مسألة خطيرة جدًّا، كل إنسان يحرص على أن لا يكون مترفًا، أن يكون ممتلكًا في رغباته حالة الاتزان، وأن يضبط واقعه النفسي في متطلبات هذه الحياة ومعيشتها، لا تعوِّد نفسك، ولا تسمح لنفسك أن تتجه إلى حالة الترف، تقول: [أنا أريد يوميًا أضخم طعام، أنا أريد أغلى ملابس، أنا أريد أفخر الأشياء، أنا أريد أضخم الأشياء، أنا أريد أغلى الأشياء، أنا أريد أن أخزن بأحسن قات وأفخر قات… وتشغل نفسك بهذا] |لا|، حتى لو امتلكت المال حلالًا، لا تعوِّد نفسك على ذلك، كن اقتصاديًا، هناك التزامات كثيرة في الحياة، كيف ستوفر لها؟ ثم على المستوى النفسي، نفسية الإنسان تتخرب، تتدنس إذا اتجه في هذه الحياة وراء متع النفس وأهواء النفس، وأصبحت كل اهتماماته، كل تركيزها على ذلك، هذا يشكِّل خطورة على زكاء نفسه، على صفاء نفسه، هذا يصيب الإنسان بحالة الطمع، والجشع، والحرص… آفات كثيرة تتولد عن الترف.
وطبعًا هناك فئة واسعة جدًّا في مجتمعنا العربي والإسلامي وفي بلدنا فئات فقراء، إذا لم يعد لدى البعض التفاتة إلى ما يعانيه الآخرون وأن البعض- مثلًا– قيمة تخزينة له لو تصدَّق بها على عشرين فقيرًا، البعض يمكن أن يغتنوا بها، أو يتوفر لهم احتياجهم من الطعام لمدة شهر، تكون تخزينة إما مسؤول كبير، وإلا ثري كبير، وإلا تاجر كبير… لاحظ، كان بإمكانه أن يتصدق، وجزء من المال يكفيه، حالة متوسطة، حالة طبيعية، حالة… لا يبالغ في ذلك.
فالسياسة في الإنفاق والطريقة في الإنفاق لدى المتقين، لدى المؤمنين، هي متزنة، وهذه من أبرز مواصفاتهم: { لَمْ يُسْرِفُوا}: فلا هم ينفقون في المعصية، ولا في دعم الباطل، ولا هم يبالغون في توفير متطلبات هذه الحياة، فيتجهون إلى: الأفخر، والأضخم، والأغلى، والمدري ايش… ويتنصلون- في مقابل ذلك- عن التزاماتهم في هذه الحياة: إنفاق في سبيل الله، الفقراء والمساكين، صلة ذوي الأرحام، المساهمة في المصالح العامة، الأيتام…الخ.
البخل ناتج عن سوء الظن بالله
{وَلَمْ يَقْتُرُوا}: وليسوا في حالة بخل، وتقليل للنفقة نتيجةً للبخل؛ لأن البخل وهو صفة سلبية جدًّا، وهو كما شبهه الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”: (شَجَرَةٌ فِي النَّارِ، فَمَنْ تَعلَّقَ بِغُصنٍ مِنهَا قَادَهُ ذَلِكَ الغُصنُ إِلَى النَّارِ) يأخذ بك إلى جهنم، البخل كذلك، مثلما الإسراف يؤثِّر على الالتزامات في هذه الحياة: الالتزامات الأخلاقية، والإنسانية، والدينية؛ من زكاة، من صدقة، من إحسان، من إنفاق…الخ. كذلك البخل له نفس النتيجة، هو: يؤثِّر على التزامات الإنسان، المقُتِّر البخيل يؤثِّر على أسرته، يؤثِّر على نفسه، يؤثِّر على التزاماته الأخرى؛ لأن بالإمكان أن تكون كريمًا من دون إسراف، وأن تكون- كذلك- منفقًا ومهتمًا بنفسك وأسرتك من دون إسراف، وبتقدير للظروف، وبملاحظة للمراحل…الخ.
البخل مذموم جدًّا، والحديث عنه في القرآن الكريم حديث- أيضًا– مخيف جدًّا، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}[النساء: من الآية37]، هؤلاء موعودون من الله بالنار، موعودون بالعذاب، موعودون بالمقت من الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، والإنسان إذا كان مُقَتِّرًا وبخيلًا هو يعاني من أزمة ثقة بالله، هذه حقيقة المسألة، البخيل عنده سوء ظنٍ بالله، أنه إذا أنفق، إذا أعطى، إذا قدَّم؛ لم يبقَ لديه، لم يتعوض، لم يحصل على البديل، [با ينجح ما معه] عنده هذه النظرة، ينسى قول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، فسوء ظنه بالله يؤثِّر عليه؛ فيجعل منه بخيلًا، نفسيته نفسية ليس فيها إنسانية، ولا رحمة، ولا كرم، ولا سخاء، وبالتالي عنده إفلاس إنساني في المشاعر والإحساس والوجدان الإنساني، وعنده إفلاس أخلاقي، لا يتمتع بمكارم الأخلاق، ولا يتصف بها من كرم وسخاء، وعنده أزمة إيمانية في ثقته بالله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى، وبحسب البخيل هذه الكوارث الثلاث، ثلاث كوارث: أزمة ثقة بالله: عنده ما الله با يعوض له ولا يعطيه، وعنده مشكلة إفلاس إنساني: لا يحسب للآخرين حتى لو رأى معاناة شديدة جدًّا لا يبالي، وعنده مشكلة الإفلاس الأخلاقي: ما هو كريم.
حاجة المجتمع المسلم إلى الحكمة في التصرفات المادية
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}[الفرقان: الآية67]، يعني: حالة متزنة، ما تقوم به الحالة: العدل، إعطاء كل شيء ما يقتضيه بحسب مستوى الحالة، عندهم حكمة في التصرف، والإنسان يحتاج إلى الحكمة في التصرف المادي والمالي بأكثر من أي شيء آخر، ولهذا أتت الآية المباركة في سورة البقرة: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[البقرة: من الآية269]، في سياق الآيات التي تتحدث عن الجانب المالي. المال، الإمكانات المادية تحتاج إلى الحكمة، ومجتمعنا الإسلامي بحاجة أن يتربى ليكون مجتمعًا مقتصدًا، اقتصاديًا، متزنًا، غير مسرف، وغير مبذر، وغير بخيل، إذا تخلَّص مجتمعنا الإسلامي من البخل ومن الإسراف والتبذير؛ سيتحسن الوضع الاقتصادي في عالمنا الإسلامي، وتتعالج كثير من مشكلات الفقر والمشكلات الاجتماعية، وتتجه الأموال إلى حيث ينبغي أن تكون، فيما فيه مصلحة ومنفعة حقيقية للأمة.
الإسراف ضياع وإهدار، وعلى حساب أشياء مهمة، وعلى حساب اهتمامات كبيرة، والتزامات مهمة، ومسؤوليات مهمة، وأمور إنسانية حتى، الذي يضيع نتيجة الإسراف، والذي يضيع نتيجة التبذير، والذي لا يخرج نتيجة البخل، كل هذه لو خرجت لأغنت فقراء، ولقامت بمصالح عامة، ولساهمت في قوة الأمة، ولغيَّرت واقع الأمة.
أقول لكم: مجتمعنا الإسلامي لا تنقصه الثروة أبدًا، والله لا تنقصه الثروة، الله “جلَّ شأنه” كما قال في كتابه الكريم: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان: من الآية20]، كل بلد من بلداننا فيه من مقومات الحياة على المستوى الزراعي، وعلى مستوى ما أودع الله فيه من المعادن والخيرات، وعلى مستوى ما هيأ الله وجعل فيه من معايش، الأرض بكلها جعل فيها معايش العباد، بما يوفر احتياجاتهم الضرورية، وبلداننا، بلدان العالم الإسلامي، والمنطقة العربية في المقدمة، هي في كل ما فيها من أسباب الخير، وما أودع الله فيها من النعم بالشكل الذي ليس فقط تعالج مشكلة الفقر في مجتمعاتنا وواقعنا كأمة عربية، كأمة مسلمة، كشعوب مسلمة، بل أكثر من ذلك، ما يساعدنا لنكون على مستوى عالٍ، وأن ننهض بمسئولية كبيرة في إقامة الحق في هذه الدنيا، وفي إيصال هذا الخير المادي والمعنوي إلى أقطار أخرى من الأرض، إلى مناطق أخر من العالم.
بلدان الخليج، ثروتها وحدها، الثروة وحدها في الخليج ما يغني العالم الإسلامي بكله، ويبقوا أهل الخليج أثرياء، مع هذا الفقر هناك حتى لدى المواطنين في الخليج؛ نتيجة نهب بعض الأمراء والملوك، نهب رهيب جدًّا. بقية المناطق في العالم الإسلامي، حتى عندنا في اليمن، المقومات الاقتصادية ضخمة، لكن تحتاج إلى اهتمام، إلى سياسة، إلى تدبير، إلى نفوس زاكية، إلى تخلص من هذه الآفات الثلاث، من: (البخل، والإسراف، والتبذير)، وإلى اتجاه واعي من الجميع: أصحاب القرار، المسئولين، التجار، المواطنين، نحو الأشياء المهمة، السياسات الحكيمة، الأعمال المثمرة، وبالتالي إذا تخلَّص مجتمعنا الإسلامي- كما قلت- من هذه الآفات الثلاث، من: (البخل والإسراف، والتبذير)، واتجه بسياسة رشيدة وحكيمة في التصرف في المال والإمكانات الاقتصادية؛ تحتل كثير من المشاكل الاقتصادية.
نكتفي بهذا المقدار، ويكون لنا- إن شاء الله- موعد آخر مع بقية الآيات المباركة، التي تتحدث عن مواضيع أخرى.
نسأل الله سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم في هذا الشهر الكريم للاهتداء بكتابه، وأن يجعل منه شفاءً لِعللنا وما في صدورنا، وأن يزكينا به، وأن ينوِّر أبصارنا وأفكارنا وتوجهاتنا في هذه الحياة به وبنوره، أن ينصرنا بنصره، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يعافي مرضانا، وأن يختم لنا بالحسنى، وأن يكتبنا في هذا الشهر المبارك من عتقائه ونقذائه من النار.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛