كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد القائد 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين، وعن الشهداء الأبرار.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
في العام الخامس من الصمود في وجه العدوان السعودي الأمريكي الغاشم على بلدنا العزيز وشعبنا اليمني المسلم، تأتينا الذكرى السنوية للشهيد القائد السيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- هذه الذكرى المؤلمة التي هي محطةٌ مهمة نكتسب منها المزيد من العزم والقوة، ونستفيد منها الوعي، ونكتسب منها البصيرة فيما يفيدنا ونحن في ظل التصدي لهذا العدوان ومواجهة هذه التحديات.
والسيد حسين -رضوان الله عليه- هو الذي لم يزدد خلال كل هذه الفترة الزمنية إلا حضوراً، حضوراً في وجداننا ومشاعرنا، حضوراً في موقعه في القدوة والقيادة والهداية، وأيضاً حضوراً بمشروعه القرآني العظيم، هذا المشروع المستمد من نور القرآن وهدي القرآن والمرتبط بالواقع، وهذه الذكرى بمثل ما هي محطة لاكتساب الوعي والعزم والبصيرة والقوة، هي ذات صلة وثيقة بالواقع، والسيد حسين -رضوان الله عليه- بمشروعه القرآني العظيم هو حاضرٌ في الساحة، هذه الساحة بما فيها من أحداث، وبما فيها من تحديات، بما قدمه من نورٍ وهدايةٍ وبصيرةٍ، وبما تركه من أثرٍ عظيم في وجداننا ومشاعرنا، ومن أثرٍ يتزايد يوماً بعد يوم.
مسار الأحداث شاهد على ضرورة المشروع القرآني
مسار الأحداث منذ انطلاقة المشروع القرآني، ومنذ بداية التحرك للسيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- وإلى اليوم في ساحتنا الإسلامية وفي منطقتنا العربية وفي بلدنا اليمن، مسار الأحداث بكله يقدم في كل يوم- من ذلك اليوم وإلى اليوم- الشواهد تلو الشواهد على صوابية هذا المشروع وهذا التحرك، وعلى أهميته، وعلى ضرورته، وعلى الحاجة إليه، فالسيد حسين -رضوا الله عليه- لم يتحرك من فراغ، والمشروع القرآني الذي قدَّمه للأمة هو مشروعٌ الأمة في أمسِّ الحاجة إليه، يشهد الواقع، وتشهد الأحداث- كما قلنا- وهي يوميةٌ من ذلك اليوم وإلى اليوم، نحن- في عالمنا الإسلامي وفي منطقتنا العربية وفي بلدنا اليمن- نحن أمةٌ مستهدفة شئنا أم أبينا، أقررنا أم أنكرنا، نحن أمةٌ مستهدفة، التاريخ يشهد، على مرِّ التاريخ كم شهدت ساحتنا الإسلامية من غزوٍ أجنبي، ومن استهدافٍ لنا كمسلمين، استهداف من أعداء كثر ذات جهات متعددة، وصفات متعددة، واتجاهات متنوعة، كم في التاريخ: الهجوم والغزو الصليبي، الهجوم من جانب التتار، الهجوم من أقوام آخرين واتجاهات متعددة، وشهدنا على مرِّ التاريخ كثيراً من الأحداث المأساوية في داخل أمتنا، وكان لها آثارها المدمرة في ساحتنا الإسلامية على مرِّ تلك المراحل الزمنية المعروفة في التاريخ، والتي صدرها التاريخ، والتي مثَّلت نكبات بكل ما تعنيه الكلمة على مراحل مهمة من تاريخنا، ونحن في هذا الزمن لا يزال في أوساطنا الكثير ممن عاصروا الحقبة الاستعمارية البريطانية والغربية، سواءً: الفرنسية، أو الإيطالية… أو غيرها. ثم نحن في حقبة الهجمة الأمريكية والإسرائيلية البارزة والواضحة والحاضرة بشكلٍ كبيرٍ وعدائي في ساحتنا الإسلامية، والتي نعيش مأساتها في كل يوم.
فنحن- بلا شك- أمةٌ مستهدفة، والمؤثرات القادمة على ساحتنا وعلى واقعنا المؤثرات هذه مؤثرات موجودة بالفعل، وتأثيراتها في كل مناحي حياتنا واضحة بالفعل، وبالتالي لا التجاهل لكل هذا يجدي، ولا التنصل عن المسؤولية يفيد، ولا أيضاً الانسياق وراء هذه المؤثرات والاستسلام لهذه الأحداث، وأن نتحول إلى ساحة مفتوحة أمام العدو يصنع فينا ما يشاء ويريد، ويفعل بنا ما يريد، ويتحرك بنا وفينا كما يريد، ليس كذلك أمراً صحيحاً ولا مفيداً لنا أبداً.
المشروع القرآني مشروع صحوة ومنهاج عمل
يلزمنا كأمة مستهدفة كمسلمين يلزمنا فهمٌ صحيح ومعرفة واقعية بالأحداث والواقع والتحديات والمخاطر، وعي صحيح عن العدو، ومن هو هذا العدو، وماذا يريد هذا العدو، وكيف هي مؤامرات ومكائد هذا العدو، ويلزمنا رؤية صحيحة للحل، ومشروع عملي وبرنامج عمل نتحرك على أساسه للتصدي لهذه الأخطار والتحديات، وإلا فلا الأخطار سترحمنا ولا العدو سيرحمنا، ولا الله سيرحمنا إن نحن لم نرحم أنفسنا، إن نحن لم نلتفت إلى واقعنا، إن نحن لم نتحمل المسؤولية، إن نحن لم نتحرك كما يريد الله منا أن نتحرك، وكما هي سنن الله -سبحانه وتعالى- مع عباده في واقع هذه الحياة، يلزمنا قراءة واعية عن الأحداث والمخاطر والتحديات، ووعي بتوجهات الأعداء، والتحرك على أساس مشروعٍ صحيح، وهذا ما ركَّز عليه السيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- في مشروعه القرآني، وفي نهضته بالمسيرة القرآنية المباركة.
مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبداية الألفية الثالثة تحركت أمريكا وإسرائيل، ومن يدور في فلك أمريكا، في هجمة استعمارية دخلت بأمتنا في مرحلة جديدة خطيرة وحساسة ومهمة، وهذه الهجمة هي هجمة شاملة وواسعة، وتتحرك في كل الاتجاهات وفي كل المجالات، وتحت عناوين متعددة، وبأدوات متعددة، وبالتالي فهي هجمة خطيرة؛ لأنها ليست فقط هجمةً عسكرية تتجه على نحوٍ عسكريٍ بحت، فيلزمنا فقط في التصدي لها أن نتحرك عسكرياً. لا، إنما هي هجمةٌ شاملة تتحرك تحت عناوين خطيرة، وتركز بشكلٍ أساسيٍ على اختراق الأمة، وهذه هي أخطر قضية على الأمة: أن العدو يركز بشكل كبير في هجمته هذه على اختراق الأمة من الداخل كمسار رئيسي في مساراته المتعددة لاستهداف هذه الأمة، وهذا الاختراق للأمة من الداخل يهدف فيه العدو إلى أن يوصل الأمة إلى حالة الانهيار الكامل، بما يمكنه من السيطرة التامة عليها إنساناً وأرضاً وثروة، والاستغلال التام لها؛ حتى نصبح نحن كأمة مسلمة ما بعد مرحلة الانهيار عبارة عن مغنم: ثروتنا البشرية ثروة تصبح بيد العدو، يمتلكها العدو، يوظفها العدو ويستغلها كما يشاء ويريد، الثروة المادية في منطقتنا العربية والإسلامية- عموماً- كذلك تتحول إلى ثروة يمتلكها العدو ويستغلها بشكلٍ تام، موقعنا الجغرافي يتحول كذلك إلى موقع يمثل امتيازاً مهماً للعدو (للأمريكي، والإسرائيلي)، ويستغله حتى في السيطرة على ما تبقى من العالم، وفي صراعه مع منافسيه ومناوئيه في الساحة العالمية.
وهذه مسألة كارثية بالنسبة لنا كمسلمين، لو اتجهنا إلى أن نمكن العدو للوصول إلى تحقيق هذه الهدف، وأن نتحول بكلنا- كما يشاء لنا عدونا أن نكون- ثروةً له يستغلها كما يشاء ويريد، وأن نفقد كل شيء: الحرية، الكرامة، الاستقلال، المبادئ، القيم، نفقد كل شيءٍ يتصل بالدنيا والآخرة، نضحي بالدين والدنيا، ولصالح عدوٍ يعادينا، يكرهنا، يحتقرنا، يمتهننا، يسعى لاستعبادنا، لا يمتلك مثقال ذرةٍ من الاحترام لنا، ولا من التقدير لنا، أنا أقول: لو قبلنا بذلك لخرجنا حتى عن طورنا الإنساني، ولكنا أشبه بالأنعام والحيوانات التي تجردت من كل ما منح الله الإنسان من مؤهلات، ومن ملكات، ومن مقومات تساعده على أن يكون له حضور في هذه الدنيا كمستخلفٍ لله في الأرض، يعني: لما بقينا كما ينبغي لنا أن نكون كمسلمين، بل حينها لن نبقى كما ينبغي أن نكون كبشر، أن نكون كناس (بني آدم)، لخرجنا عن ذلك.
المواقف المختلفة تجاه التحديات والأخطار
ولذلك فالتوجه الصحيح بحكم الفطرة الإنسانية، بحكم الدين الإسلامي، بحكم القرآن الكريم، بحكم الانتماء الإسلامي للرسالة الإلهية والرسل والأنبياء، أن نتحرك بمقتضى ذلك بما يكفل لنا أن نواجه هذا التحدي وهذا الخطر، وأن نحمي أنفسنا من هذا الاختراق الذي هو اختراق خطير جدًّا، رأينا كيف أثَّر في الكثير من أبناء الأمة، هناك- بالفعل- منعة، وحصانة، ومقاومة، وتحرك مناهض لهذا الخطر ولهذا التهديد، وهناك- في نفس الوقت- جهات أخرى من أبناء الأمة ومكونات: البعض منها أنظمة وحكومات، البعض منها كيانات داخل الشعوب، والبعض منها تيارات وفئات من أبناء الأمة كان لها اتجاهات خاطئة: البعض منها اتجاه نحو ما يريده العدو بشكلٍ مباشر، نحو الاستغلال والخضوع، والتحول كأدوات لصالح العدو يشتغل بها كما أراد أن يشتغل بها، وطمعاً تحت عناوين، البعض من الفئات هذه لا، اتجهت نحو الانسياق لتمكين العدو من خلال الاستسلام والخنوع والتنصل عن المسؤولية والجمود، وأن نترك العدو ليتحرك في هذه الساحة ويشتغل، وفي نفس الوقت يكون هناك موقف سلبي من كلا الاتجاهين ممن يتحرك كما ينبغي، التحرك الطبيعي بحكم الفطرة الإنسانية، والتحرك الصحيح بمقتضى الانتماء الإسلامي للإسلام والقرآن، للرسالة والأنبياء والرسول محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- في المناهضة لهذه الهيمنة، في التصدي لهذا التهديد، في المواجهة لهذه التحديات والأخطار، فالذين تحوَّلوا إلى أدوات تحت عناوين متعددة كـ: التكفيريين مثلاً، وبعض الأنظمة كـ: النظام السعودي والنظام الإماراتي ونحوهما، وبعض الكيانات الأخرى من أبناء الأمة الذين قبلوا ورضوا لأنفسهم أن يتحولوا إلى أدوات بيد الأمريكي، وأن يتحركوا- بناءً على هذا- تحت إشرافه، لتنفيذ أجندته، وفق توجيهاته، أن يعادوا من يريد منهم الأمريكي معاداته، وأن يوالوا من يريد منهم الأمريكي موالاته، وأن يتحركوا تحت العناوين وبنفس ما يريد منهم أن يفعلوا، هؤلاء الذين يتحركون على هذا الأساس باتوا بيد الأمريكي يتحرك بهم لاستهداف من يتحرك بشكلٍ صحيح في أوساط الأمة، ولتنفيذ مؤامراته التدميرية لهذه الأمة، والتي يسعى إلى تقويض كيان هذه الأمة بالكامل، وبالتالي حتى أولئك الذين يتحرك بهم كأدوات- في نهاية المطاف- يصل بهم حتى هم إلى حافة الانهيار، فلا يبقى لهم- فيما بعد- أي مشروع أو مساحة هامشية لصالحهم هم، في نهاية المطاف يمكن أن يدمرهم هم، وأن يحولهم إلى حالة ليس لها أي حضور يعبر عنها، أو يحقق مصلحةً لها، أو ذات وجود بشكل كيان هنا أو كيان هناك. لا، يعيد صياغتها من جديد كما يحلوا له؛ لأنه لا يريد حتى أن تبقى بارزة في داخل هذه الأمة، يريد أن يقوِّض حتى هذه الكيانات من الدول هنا وهناك، بما في ذلك المملكة العربية السعودية… وغيرها.
الهجمة الأمريكية.. العناوين والمسارات
وبالتالي هذه الهجمة الخطرة جدًّا التي تسعى إلى اختراق الأمة من الداخل، وإلى السيطرة على الواقع الداخلي، وتشتغل تحت عناوين متنوعة لإثارة الفتن، لاستغلال الناس، لتنفيذ الأجندة التدميرية التي تخدم العدو، ويصاحبها حملة تشويه غير مسبوقة للإسلام، وهذه نقطة مهمة جدًّا؛ لأنها توضح لنا أننا مستهدفون في إسلامنا، إسلامنا في مبادئه الصحيحة طبعاً، في أخلاقه الصحيحة، في تعليماته الصحيحة، الإسلام المحمدي الأصيل، حملة تشويه تستغل فيها كيانات محسوبة على هذه الأمة (التكفيريين)، التكفيريون يستغلون ليلعبوا هم هذا الدور القذر، هذا الدور الخطير جدًّا، هذا الدور السيء جدًّا، فتجد شغلاً كبيراً في واقعنا الداخلي كأمة مسلمة تحت عناوين كثيرة، عناوين تدميرية، عناوين مشوهة، عناوين تقوّض كيان الأمة، عناوين تبعث حالة الحيرة واليأس، عناوين تدفع بالأمة نحو انعدام الرؤية والوصول إلى الانهيار التام، وبالتالي الارتباط بالعدو كموجه رئيسي، وكحاكم لهذه الأمة ومسيطر عليها؛ حتى لا يبقى في واقع الأمة أي رؤية ذاتية، أي توجه صحيح وحقيقي من الداخل، هذا ما يسعى له الأمريكي ويسعى له الإسرائيلي، بالتالي تفقد هذه الأمة كل عوامل المنعة، البناء، التماسك؛ وعندما تفقد كل هذه العناصر تتبعثر، تتلاشى، تنهار، تنتهي، تتحول إلى مغنم كبير بيد العدو، تفقد هويتها، وتفقد كل عناصر التماسك والنماء والبقاء والقوة والقدرة على مواجهة التحديات والأخطار.
هذه الهجمة خطيرة جدًّا، هذه الهجمة؛ لأنها تشتغل على كل المسارات: سياسياً تحت عناوين متعددة، تستهدفنا في الجانب الاقتصادي؛ حتى تصل بنا إلى أن نفقد كل المقومات الاقتصادية، نتحول إلى أمة لا تنتج شيئاً من أساسيات حياتها، ومجرد سوق استهلاكية، وكثيرٌ منها أيضاً ليس فقط يصلون إلى حد انعدام المقومات الذاتية على المستوى الاقتصادي، وانعدام القدرة على الإنتاج، إنما متسولون أيضاً، يتحول الكثير منا إلى متسولين، يعتمدون على المنظمات، على الهبات؛ ثم يتم استغلالهم- بشكلٍ أو بآخر- على المستوى العسكري وعلى كافة المستويات.
فهذه الهجمة التي تأتي لاختراق الأمة من الداخل، وتطويعها، وتصل بها إلى حالة اتخاذ أعدائها من الأمريكيين والإسرائيليين الذين هم فريق الشر في هذا العصر من أهل الكتاب، من اليهود ومن النصارى، من داخل تلك الساحة هم فريق الشر الذي أشار إليه القرآن الكريم، ويلعب دوراً سلبياً، هم في هذا العصر هم من يلعب هذا الدور السلبي والتخريبي والعدائي لهذه الأمة، يتحولون هم- بعد اتخاذهم أولياء، وبعد التطويع للأمة- إلى مسيطرين على هذه الأمة، ومحكمين لسيطرتهم عليها.
المشروع القرآني.. مشروع وعي وبصيرة وتزكية
المشروع القرآني الذي تحرك به السيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- هو مشروعٌ عظيم، ينطلق– كما قلنا- من قراءة واعية عن العدو، عن الأحداث، عن مسارات هذه الأحداث، عن المجالات التي يتحرك فيها العدو: سياسياً، إعلامياً، اقتصادياً، بالتضليل الثقافي والفكري، بالاستغلال لمشاكل هذه الأمة التي تكاثرت عبر قرونٍ من الزمن، بالتوظيف والاستغلال لكثيرٍ من الأحداث والأزمات والمشاكل… وعي بالعدو، بأساليبه، بمكائده، بمخططاته، بطبيعة هذا الصراع، وطبيعة هذه المعركة، ويعتمد على القرآن الكريم، وعلى النظرة الواعية إلى الواقع، والفهم الصحيح لهذا لواقع، على مبدأ (عينٌ على القرآن، وعينٌ على الأحداث).
هذا المشروع القرآني أيضاً يركز على الساحة الداخلية في تحصينها؛ لأن القرآن الكريم كلما تحدث لنا عنهم كأعداء يركز على أن يصيغ لنا رؤية صحيحة، نظرة صحيحة، فهماً صحيحاً عن هذا العدو كعدو، عن أساليبه، عن مكائده، عن النقاط الخطرة التي ينفذ من خلالها في معركته معنا كأمةٍ مسلمة؛ فيتجه المشروع القرآني إلى تحصين الأمة من الداخل، وفق الهداية القرآنية التي تركز على هذه النقطة بشكلٍ جوهري، ويركز القرآن الكريم على رؤية واسعة وكاملة، وفي نفس الوقت تعبئة معنوية عالية، وتربية على الشعور بالمسؤولية بشكلٍ كبير، وإيجاد طاقة معنوية هائلة لتحمل المسؤولية، والانطلاقة كما ينبغي في مواجهة هذه التحديات.
فالمشروع القرآني يمتلك بخصائص القرآن الكريم، وما يتميز به القرآن الكريم، وبارتباطه بالواقع، وملامسته لهذا الواقع، وصلته بالأحداث والظروف، وعلاقته بكل هذه المجالات في واقع الحياة، يمتلك مقومات عظيمة وفريدة ومهمة، يوفر الوعي، وأول ما نحتاج إليه في هذه المعركة هو الوعي، عندما تستقرأ في ساحتنا السياسية في عالمنا العربي والإسلامي تشاهد أن هناك أزمة خطيرة جدًّا ومشكلة حقيقية في الوعي، كم تسمع من التحليلات السياسية، والقراءة للأحداث، والنظرة إلى العدو، وتجدها- في كثيرٍ من الحالات- منعدمة ومفلسة في الوعي، كم تجد من الكتابات والأبحاث والمقالات والدراسات تفتقر إلى الوعي، كم تجد من التعليقات والبرامج وهي مفرغة من كل مضمونٍ واعٍ ويصنع الوعي في الساحة، فهناك مشكلة كبيرة يستفيد منها العدو؛ ولهذا لاحظ عندما يأتي العدو ليقدم عنواناً معيناً، يخدع به الكثيرين، الكثير من أبناء الأمة لم يفهموا بعد أن العدو سيركز على عناوين داخلية من داخل الساحة الإسلامية والعربية، وأنه سيستغل هذه العناوين ويحرك فيها الكثير من الناس، بمجرد أن يشغِّل العنوان التكفيري الطائفي فيتجه الكثير من السذج والبسطاء والمغفلين ومنعدمي الوعي ليتحركوا بكل تفانٍ، وينفذوا خدمة كبيرة جدًّا للأمريكي والإسرائيلي بمجرد أن رفع لهم عنواناً معيناً، وشغَّل مع هذا العنوان بعض ما يتصل به من أدبيات، من شكليات، من أساليب معينة، هو يصمم ويصنع عناوين بما تحتاج إليه هذه العناوين، يحرك عنواناً هناك وعنواناً هناك وعنواناً هناك، ويحرك تحت هذا العنوان الكثير هنا وهناك، والبعض قد يعون أنها مجرد عناوين، ولكن قد يعجبهم ذلك؛ قد أصبحوا على تبعية تامة بالأمريكي، ويفهمون أن المسألة مسألة عنوان، ويعجبهم أن يكون هناك عنوان للتستر والتخفي تحته، عناوين للتمويه.
وهكذا تعتبر هذه المعركة معركة مهمة نحتاج فيها إلى الوعي، نحتاج فيها إلى زكاء النفوس؛ لأن العدو يستغل أسلوباً خطيراً في نشر الفساد في أوساط الأمة، والعمل على ضرب حالة الزكاء في النفوس، حالة القيم، حالة الأخلاق، الحالة المعنوية من الداخل في نفوس الناس، القرآن الكريم يقدم هذه الميزة على أرقى مستوى، كتاب تزكية للنفوس، والمشروع القرآني المستمد من القرآن الكريم أيضاً يكتسب هذه الميزة من القرآن الكريم ومن نوره وهدايته؛ فيقدم ما يساعد- كمنهج وكتربية وكمسار عمل- على تزكية النفوس لمن يتفاعل طبعاً، لمن يصدق في ارتباطه بهذا المشروع، يقدم أيضاً حالة عالية من الاستشعار للمسؤولية، وهذه مسألة مهمة في واقع الأمة؛ لأنها ضُرِبت على مرِّ التاريخ، مراحل كثيرة جدًّا استهدف فيها هذا الجانب في واقع المسلمين، جُرِّدوا في كثيرٍ من بلدانهم من الإحساس بالمسؤولية، ومن الشعور بالمسؤولية العامة، وألغيت مبادئ مهمة في هذا الدين وشطبت، وغيِّبت عن الخطاب الديني وعن التعليم الديني؛ حتى أصبح الكثير من المسلمين لا يرون في الإسلام إلا طقوساً وعبادات وبعضاً من المعاملات، أما هذا الجانب المهم في الشعور بالمسؤولية أن نكون أمة تسعى إلى إقامة الحق، إلى التصدي للباطل والطاغوت، إلى مواجهة الظلم والاستعباد، إلى التصدي للأعداء.. كل هذه المفاهيم شطبت من نفوس الكثير، لا توعية ولا تربية، لا تثقيف، ولا تعليم، ولا بناء، ولا مشاريع عمل قائمة على أساس ذلك.
المشروع القرآني أيضاً يلحظ- مع مسألة الوعي ومسألة الزكاء للنفوس- برامج العمل والتعبئة المعنوية، برامج عمل، أنشطة عملية في كل المسارات: العدو يشتغل سياسياً، كيف نتصدى في الساحة السياسية؟ يشتغل إعلامياً، كيف نتصدى في الساحة الإعلامية؟ يشتغل على المستوى الاقتصادي، كيف نحمل رؤيةً اقتصادية تبنينا من جديد كأمة منتجة، وتعطي أولوية للمسائل المهمة جدًّا في عملية الانتاج الاقتصادي، وتعي أهمية الخلاص من التبعية للأعداء، رؤية متكاملة في هذا الاتجاه؟ ثم على المستوى الفكري والثقافي، كيف ننقي ثقافتنا وفكرنا من كل الشوائب التي تضربنا في ساحتنا العملية في واقع حياتنا، تجعلنا نتجه عملياً الاتجاهات الخاطئة؟ وهكذا نجد في المشروع القرآني الشمولية والتكامل الذي يلحظ كل الساحات وكل المجالات وكل الاتجاهات، ويلحظ أيضاً في شموليته التحرر من الأطر الضيقة التي تكبِّل الأمة، على مستوى: الأطر الجغرافية، أو الأطر المذهبية، أو الأطر… في أي شكلٍ من أشكالها الضيقة التي تكبل الأمة.
القرآن الكريم والتركيز على تحصين الساحة الداخلية
فهو مشروع انطلق بعالمية القرآن الكريم، بعالمية الإسلام، بأفق الإسلام الواسع الذي ينظر إلى الأمة كل الأمة، ويحس بهذا الانتماء إلى هذه الأمة بكلها، وإلى أنك كمسلم جزءٌ من هذه الأمة بكلها، يهمك أمر هذه الأمة في أي قطرٍ من أقطار هذه الأمة، ويركز على القضايا الرئيسية والمركزية للأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي هي قضية كل الأمة، والمقدسات التي تعنينا جميعاً، يلحظ ما تشكِّله إسرائيل من خطورة بالغة، ويلحظ أيضاً هذا الترابط الحقيقي، وهذا التلازم الفعلي ما بين إسرائيل وأمريكا، وأن كلاهما وجهان لعملة واحدة، وأن هذا الخطر والتهديد الكبير يجب أن نلحظه كمسلمين وأن ننظر إليه كمسلمين كأكبر تهديد على أمتنا، ويجب أن نعطي الأولوية للتصدي له، والتصدي من واقع هذه المعركة الواسعة في كل مجالاتها ومساراتها، بدءاً من التركيز على تحصين الساحة الداخلية؛ لأن القرآن يتجه إلى الساحة الداخلية، عندما يتحدث عنهم كأعداء يأتي ليقدم لنا جملةً من التوجيهات التي تركز على واقعنا الداخلي، وهذا- للأسف- لم يفهمه الكثير من علماء الدين، لديهم جهل فظيع بهذه المسألة، ولا من السياسيين الكثير منهم لم يفهموه بعد، ولا من كافة الفئات والمكونات، البعد عن القرآن الكريم صنع أمِّيَّة تجاه هذا الخطر وهذا التهديد وما يشكله وما يعتمد عليه، ولهذا تجد البعض اتجهوا إلى انتقاد المشروع القرآني: لماذا الشعار؟ لماذا المقاطعة؟ لماذا حملات التوعية؟ لماذا هذه الرؤية التي تركز على إصلاح الواقع الداخلي للأمة، وعلى سد الثغرات التي ينفذ من خلالها العدو، ويستغلها العدو؟ لأنهم لم يلحظوا كيف يتخاطب القرآن الكريم.
القرآن الكريم في سورة المائدة يأتي ليتحدث معنا عن خطورة ذلك العدو، ثم يقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: من الآية51]، ثم يأتي ليتحدث حديثاً واسعاً عن الواقع الداخلي للأمة، كيف تتحصن؛ لأن مشكلة الأمة عندما تتجه لتتخذ أمريكا وإسرائيل أولياء، هذا- بحد ذاته- كفيل بأن يوجه ضربة للأمة، أن يؤثر على واقعها الداخلي، أن يصنع فيها الكثير من المشاكل، أن يمثل تهديداً وخطراً فعلياً عليها، عندما يأتي ليقول في سورة آل عمران: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: من الآية100]، فيشخص هذا الخطر الذي يركز على تفريغنا من هويتنا في أهم مبادئها وقيمها وأخلاقها، وتعاليمها القيِّمة التي تبنينا، وتبني واقعنا ليكون واقعاً قوياً، لنكون أمة متماسكة، مستقلة، متخلِّصة من التبعية لأعدائها، ومن الاستغلال للطاغوت وللظالمين في هذا العالم، يأتي ليقدم لنا الكثير من التعليمات تتجه إلى واقعنا الداخلي كيف نصلحه، كيف نبنيه على الاعتصام بالله -سبحانه وتعالى-؛ حتى نستمد هذه القوة المعنوية من اعتمادنا على الله، من ثقتنا بالله، وحتى نحظى بالرعاية الإلهية، والنصر الإلهي، والمعونة الإلهية، كيف نبني هذا الواقع على تقوى الله، فنحذر من التفريط في مسؤولياتنا، ونلتزم في واقعنا، في حياتنا، في مسيرة حياتنا بقيم هذا الدين وتعاليم هذا الدين، وتوجيهات الله -سبحانه وتعالى- ونلتزم بصفات المتقين فيما وصفهم الله به في القرآن الكريم، كيف ننقي ساحتنا الداخلية من العداوات الهامشية، والعداوات التي يستغلها الأعداء، أو يخلقها الأعداء في ساحتنا الداخلية، أو تتنامى نتيجةً لمشاكل هنا ومشاكل هناك لم تحل كما كان ينبغي لنا أن نحرص على حلها، كيف نعطي الساحة الداخلية في واقعنا الإسلامي اهتماماً كبيراً في الوحدة والاعتصام بحبل الله -سبحانه وتعالى- وعلى أساس هديه وتوجيهاته وتعليماته؛ لتكون هي ما نلتقي عليه، وما تجتمع كلمتنا عليه، وما نتمسك به، وما نسير على أساسه، فنتوحد ونعتصم بحبل الله جميعاً، كيف نحرص على أن نتحرك تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح واقعنا الداخلي في كل المسارات والاتجاهات؛ ليكون واقعاً خيِّراً ندعوا فيه إلى الخير تحت هذا العنوان العظيم والواسع، لنعمل على أن تكون هذه الساحة الداخلية قائمة على أساس المعروف، المعروف في قيمه، وساحة نظيفة من المنكرات بكل أشكالها: في الواقع الاقتصادي، في الواقع الأخلاقي، في الواقع السياسي، في الواقع العام، ساحة صالحة، وهكذا يسد كل الثغرات التي تؤثر علينا، والتي تتحول هي إلى وسائل يستغلها العدو ليخوض بها معركته معنا من الداخل، من واقعنا الداخلي، وهذا هو ما يحصل اليوم في واقع الأمة، الأمريكي يخوض لربما- ونحتاط على سبيل الاحتياط- لربما خمسة وتسعين بالمائة من معركته معنا كأمة مسلمة يخوضها بوسائل في الداخل، وبأدوات من الداخل، ويستغل فيها مشاكل من الداخل؛ لأن البعض مثلاً يقولون: [أنتم تهربون من المشاكل الواقعية والفعلية في واقع الأمة إلى نظرية المؤامرة]، نقول: |لا|، نحن نقول فعلاً هناك الكثير من المشاكل والأزمات والسلبيات في واقع الأمة، والتي تراكمت على مرِّ الزمن حتى وصلت إلى حالة خطيرة أثَّرت سلباً جدًّا في واقع الأمة، والعدو يستغلها، ويصنع المزيد، يطور ما هناك من مشاكل، وينمي ما هناك من أزمات ويستغلها ويوظفها، ويصنع المزيد من الأزمات والمشاكل والأحداث ويوظفها ويستغلها.
ولذلك نجدنا اليوم كأمة مسلمة نحتاج بشكلٍ كبير إلى القرآن الكريم، المشروع القرآني هو انطلق بناءً على هذا الأساس: من واقع الحاجة إلى القرآن الكريم؛ لأنه أعظم مصدر للوعي والهداية، ولأنه سيحمي لنا نظرتنا إلى الإسلام بشكله الصحيح وليس المشوه؛ لأن العدو له معول هدم يتمثل بالتكفيريين لتشويه الإسلام، حتى يصل إلى خلق نظرة سلبية جدًّا عن الإسلام، تساعد على إبعاد الناس عن الإسلام، حتى في مفاهيمه الصحيحة ومبادئه الحقيقية، في الساحة الإسلامية وخارج الساحة الإسلامية، ثم يعمل أيضاً على فصلنا عن الإسلام بطريقة أخرى: بطريقة نشر الفساد، وضرب القيم والأخلاق، والتفريغ لنا من هذا المحتوى الأخلاقي للدين الإسلامي، والتأثير على نفسياتنا بما يساعده على السيطرة علينا، الإنسان إذا وصل إلى حالة مفرَّغة من الأخلاق والقيم والمبادئ يصبح- كما قلنا مراراً وتكراراً- كالإنسان الآلي، يحرك بالريموت الأمريكي والإسرائيلي: ريموت الغرائز، ريموت الشهوات، ريموت الأفكار المنحرفة، التصورات الخاطئة، النظرة المغلوطة لكثيرٍ من القضايا؛ فيحركونه كما يشاؤون ويريدون.
القرآن الكريم يخاطب الأمة بكلها وليس النخب
من أهم ما يلحظه المشروع القرآني: أنه يتجه إلى الأمة بكلها، فهو ليس مشروعاً نخبوياً خاصاً بالنخبة، بفئات معينة، مثلاً: خطاب معين، محاضرات معينة، دروس معينة، برنامج معين يتجه حصرياً إلى الأكاديميين، أو إلى علماء الدين، أو إلى فئة معينة. لا، هو خطاب للأمة بكلها؛ لأن القرآن يخاطب الناس جميعاً، يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)، يخاطب الساحة البشرية بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) بكل فئاتها ومكوناتها، ويخاطب الساحة العامة الإسلامية بعبارة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)، والمشروع القرآني هكذا يتخاطب مع الجميع، ويقدم خطاباً مفهوماً للجميع، يفهمه العالم، والأكاديمي، والأمي، والمثقف، ونصف مثقف… وكل فئات الأمة تفهمه، يقدم خطوات عملية متاحة وممكنة: يعبئ الساحة بالعداء للعدو، ويحصِّنها من استغلال هذا العدو، يحرك ضمن مسارات عمل في كل الاتجاهات، يركز على مبدأ الاستقلال والخلاص من التبعية للعدو، يحصن من الولاء للعدو، يحصن من سياسة التطويع لصالح العدو، يحصن الأمة من كل هذه الآفات الخطيرة جدًّا عليها، ويقدم رؤية واسعة تضمنتها المحاضرات والدروس التي أيضاً كُتِبَت في ملازم ونشرت، ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- منذ بداية انطلاقة المشروع حتى الحرب الأولى.
وهكذا نجد أن هذا المشروع يتجه إلى كل فئات الأمة، ويستنهض الشعوب، وهذه نقطة مهمة جدًّا، وفي نظر البعض مشكلة كبيرة جدًّا، بعض الأنظمة الرسمية لديها حساسية بالغة من هذه المسألة، وهذه الحساسية ناتجة عن مشكلة لدى تلك الأنظمة، وإلَّا فنحن نقول: الأنظمة الواعية والحكيمة تدرك قيمة هذا التوجه؛ لأن كل الأمة في خطر، كل الأمة في خطر: أنظمة وشعوب، حكومات ومواطنين، الكل في خطر، والكل تحت دائرة الاستهداف، مستوى هذا الخطر وهذا التهديد لابدَّ فيه من استنهاض جماعي شامل متكامل للأمة كل الأمة، حالة نفير عام في كل المجالات والاتجاهات، ووعي عام، وأن يكون الجميع في مربع المسؤولية، وفي موقع المسؤولية، هذا ينتشل الأمة مما وصلت إليه؛ لأن الأمة عانت من هجمة هائلة جدًّا، وهي في وضعية رهيبة كانت قد وصلت إليها، بفعل عوامل كبيرة جدًّا تعاقبت على مستوى الزمن، وعلى مستوى مراحل طويلة من تاريخ الأمة، فوصلت إلى مستوى متدنٍ جدًّا من الوعي، مستوى انهيار كامل على مستوى وضعها الاقتصادي في الإنتاج، والبناء الاقتصادي، والاكتفاء الذاتي… في أشياء كثيرة، مشاكل كثيرة جدًّا، فهذه الحالة من الاستنهاض العام هي التي ترتقي بالأمة لتكون في مستوى مواجهة هذا التهديد وهذا التحدي.
التحرك الشعبي.. القوة القاهرة
ولاحظوا: الأنظمة- للأسف الشديد- لم تستفد حتى من الأحداث والتجارب المتأخرة، مثلاً: البعض من أنظمتنا العربية خاضت حروباً مع العدو الإسرائيلي، وهزمت مراراً وتكراراً حتى وصلت إلى درجة اليأس، وترسَّخت عندها الهزيمة حتى صدَّقت مقولة أن: [الجيش الإسرائيلي لا يقهر]، بينما أثبت التحرك الشعبي جدوائيته وفاعليته الكبيرة في مواجهة إسرائيل: حزب الله تحرك شعبي انتصر في مواجهة إسرائيل، هزم إسرائيل، المقاومة الفلسطينية باتت اليوم في موقع القوة، وفي موقفٍ فعَّال ومؤثر، وهزمت إسرائيل في 2009 و2014، لقَّنت إسرائيل دروساً كبيرة، الأحداث الأخيرة هذه: عندما بدأت إسرائيل تصعِّد من غاراتها الجوية على قطاع غزة، ورشقتها المقاومة في غزة بالصواريخ؛ كيف اتجهت إسرائيل إلى مصر لتتوسط من جديد لوقف إطلاق النار، تكررت هذه الحالة، تجرِّب إسرائيل أن تُصعِّد نوعاً ما، فتتلقى الضربات الموجعة، فتتوسط بالمصري لوقف إطلاق النار من جديد.
التجربة الشعبية أو تجربة استنهاض الجميع ليكون الكل في مربع المسؤولية هي التي جعلت الجمهورية الإسلامية في إيران في موقع القوة، هي التي حمت العراق- مؤخراً- أمام الهجمة التكفيرية التي هي امتداد للهجمة الأمريكية، ومرتبطة بالهجمة الأمريكية، وحمت سوريا، وستحمي أيَّ شعب، أي بلد من بلدان المنطقة لا يحميه إلا عندما يكون هناك تحرك واسع.
التحرك الشعبي أو الجانب الشعبي إذا شطب من مربع المسؤولية، وأريد لهذه الشعوب أن تدجَّن، وأن تكبَّل، وأن تكون في موقع الضعف والعجز، لا حول لها ولا قوة، ولا موقف، وأن تخنع، وأن تنفرد حكوماتها وأنظمتها باتخاذ المواقف وتحديد التوجهات بعيداً عنها، هذه نظرة خاطئة تحتقر الشعوب، تحسبها لا شيء، وفي نفس الوقت فكرة خطيرة جدًّا؛ لأن الأنظمة تكون لوحدها في موقع الضعف إذا فصلت عن شعوبها؛ وبالتالي تبقى تعيش حالة المساومات في مواقفها، وتعتمد على سياسة الاسترضاء للأمريكي والإسرائيلي، بل يتجه البعض من الأنظمة ليستقوي ويحتمي بالولاء لإسرائيل وأمريكا؛ لأنه يحس بالضعف؛ لعزلته عن شعبه، وبعده عن شعبه، وإضعافه لشعبه، فتشكل هذه حالة خطيرة جدًّا، تحوِّل بعض الأنظمة إلى أدوات بيد الأمريكي والإسرئيلي يستغلها كما يشاء ويريد، وعندما يستهدف ذلك النظام يسقط بكل بساطة وكل سهولة، بينما تبقى تلك الشعوب التي كبِّلت كثيراً وقيِّدت كثيراً ساحة متى أراد العدو أن يحركها حركها، يتدخل الأمريكي في الوقت المناسب، والإسرائيل في الوقت المناسب، ويحركها وهي تعيش حالة فراغ بدون مشروع قائم في وسطها، وتكون قد عاشت حالة من الاحتقان والإحباط والغضب، ثم يفجَّر كل ذلك في غير مسارات عمل تعتمد على مشاريع صحيحة وواضحة، وتحقق الأهداف المرجوة لتلك الشعوب، يأتي الأمريكي في لحظة معينة، أو تنبعث هذه الحالة من حالة الكبت وتنفجر؛ فينتج عن ذلك تحرك كبير، لكن بغير مشروع قائم، حاضر، واضح، بيِّن، ومعالم محددة تسير فيها الشعوب؛ فيتخطفها الأعداء من هنا وهناك تحت عناوين كثيرة، وهذا ما حصل فيما يسمى بـ (الربيع العربي)، الكثير تحركوا تحت عناوين بدون مشاريع، والبعض بمشاريع خطفوا إليها، أو سيِّروا إليها، وهي مشاريع خاطئة وفاشلة وتدميرية واستغلها العدو.
ضرورة التوجه الصحيح لنكون بمستوى التحديات
ولذلك نقول: مصلحتنا اليوم كأمة مسلمة أن يتجه الجميع: (حكومات، وأنظمة، وشعوب) ضمن توجه صحيح لنكون في مستوى مواجهة التحديات، ثم ندرك أننا معنيون- في نهاية المطاف- أمام الله، في موقع المسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى- الذي يخاطبنا في القرآن الكريم بعبارات كثيرة لنتحمل المسؤولية، عبارات كثيرة جدًّا، وهو يقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وهو يقول لنا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: الآية104]، وهو يقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ}[الصف: من الآية14]، وهو يوجهنا التوجيهات الكثيرة التي تكفل لنا أن نكون أمةً حرة، أمةً مستقلة، أمةً تعيش الخلاص من التبعية لأعدائها الظالمين لها، نتحمل المسؤولية أمام الله، وأمام أنفسنا، وأمام أجيالنا، ومن هذا الوعي تحركنا في شعبنا اليمني بهذا التوجه العظيم.
نظرتنا تجاه أمتنا- بشكلٍ عام- نظرة نحس بأننا من هذه الأمة، وأن هذه الأمة يجب أن تجتمع كلمتها وتتوحد لمواجهة التحديات والأخطار التي هي عليها بكلها دون استثناء، نرتبط بالقضايا الكبرى للأمة والمصيرية للأمة، نعرف من هو العدو، ومن هو الصديق، ننظر بنظرة القرآن، وبنظرة الواقع، وبنظرة الوعي، وليس بنظرة النفاق والخيانة والعمالة، التي يرى فيها البعض إسرائيل صديقاً، وأمريكا آلهة، وليس فقط حليفاً؛ فيتحركون بشكلٍ خاطئ في واقع هذه الأمة، ولا بنظرة البعض ممن يتوهمون أن الجمود والقعود والاستسلام للعدو، والكراهية لمن يتحرك في الموقف الصحيح تفيدهم، أو تحمي الأمة، وكما قلنا في بداية الحديث: نحن أمة مستهدفة وخاضعة للتأثيرات، ومتفاعلة ومتأثرة بالأحداث في ساحتها ومن حولها، والواقع الذي نعيشه في المنطقة العربية والعالم الإسلامي هو الأسخن والأكبر، وهو المخاض الذي لا مثيل له في بقية العالم، المليء بالأحداث، والمآسي، والنكبات، والمظالم، والصراعات، لا ينفع التجاهل لهذا الواقع، لا ينفع التهرب، النظرة الخاطئة تضر صاحبها، والنظرة الصحيحة والموقف الصحيح يفيد من يتحرك على أساسه، النجاة هي في الاتجاه الصحيح في الموقف الصحيح، النجاة هي في الوعي، النجاة هي في التحمل للمسؤولية، الاتجاهات الأخرى كل آثارها وتبعاتها خطيرة في الدنيا وفي الآخرة: لا مسار الذين اتخذوا أمريكا وإسرائيل أولياء، ولا مسار المنْسَاقِين للأحداث، المستسلمين والمسيَّرين على أساس ما تجري به السفن، كلا الاتجاهين في حالة خطرة جدًّا في الدنيا والآخرة.
رحى الأحداث ستسحق كل المتقاعسين
الموقف الصحيح هو الذي يفيد، هو الذي ينجي، وإلَّا فمخاض الأحداث ورحى الأحداث سيسحق في هذه المرحلة كل المتقاعسين والمتخاذلين والسيئين، والذين يستغلُّون اليوم- وقد يظن البعض منهم أنه صاحب عبقرية سياسية، وأنه ذكي- هم في حالة استهداف، النظام السعودي وهو يقدم ما يمتلك من الأموال والإمكانات والثروة إلى أمريكا، ويتحالف مع إسرائيل، الإماراتي كذلك، من يتجه هذا الاتجاه ، من يتجهون في الاتجاه التكفيري، من يتحركون كأدوات تحت أي عنوان لصالح أمريكا ولصالح إسرائيل، هم يدمرون أنفسهم، هم يخسرون، هم يتكبدون الخسائر في كل الاتجاهات، ولكن خسائر- بما تعنيه الكلمة- في غير محلها، ونهاياتها وعواقبها سيئة عليهم، المتقاعسون والخاضعون لحالة الاستقطاب المتزايد يوماً إثر يوم هم أيضاً تسحقهم الأحداث، وتؤثر عليهم هذه المؤثرات في الساحة، وبدون أن يكونوا في الموقف المسؤول والمشرف، والذي يرضي الله -سبحانه وتعالى- والذي يفيدهم في الدنيا والآخرة.
الذين ينهضون اليوم أحراراً، وكرماء، وشرفاء، ومتحملون للمسؤولية هم في الموقف الصحيح، إِنْ لحق بهم شيءٌ من العناء والتضحيات، فهو في مقابل إنجازات حقيقية، ومكاسب مهمة في الدنيا والآخرة، كسبوا الحرية، والعزة، والكرامة، والاستقلال، وفي الآخرة: رضا الله والجنة، وسلموا من خزي النفاق والعمالة والخيانة، وسلموا من خزي أن يكونوا أدوات تعمل لصالح أعدائهم، وأن يستغلوا، وأن يستعبدوا… سلموا من كل هذه المخازي، شرف كبير هم فيه، ومكاسب حقيقية حازوها، وحفظوا إنسانيتهم، هذه نعمة، وهذا اتجاه سليم وصحيح بما تعنيه الكلمة، وشعبنا يتوجه هذا الاتجاه، ويعاديه الآخرون لذلك، الذين يتحركون كأدوات ويستغلون- وكما قلت: قد يظن البعض أنه عبقري- ماذا يمكن أن تنظر إليهم حتى أمريكا؟ هل تتصور أن أمريكا تنظر إلى النظام السعودي بنظرة الاحترام وكحليف وشريك محترم، أو أن إسرائيل تنظر إلى النظام السعودي، أو إلى الإماراتي، أو إلى التكفيريين بذرّة من الاحترام، أو تحمل لهم ذرة من الاحترام؟ كلا، ما عبَّر عنه ترامب بـ (البقرة الحلوب) هي نفس الرؤية الأمريكية تجاه تلك الأطراف فيما تستغل به على المستوى الاقتصادي، على المستوى الإعلامي أبواقاً ينفخ فيها الصهاينة، على المستوى العسكري أذرعة قذرة وإجرامية… وهكذا، نظرة استغلال، يرون فيهم أدوات تستغل لا كرامة لها، ولا احترام لها، ولا اعتبار لها، ولا قيمة لها، هل لمصلحة الإنسان أن يكون كذلك، ويبوء بالوزر أمام الله سبحانه وتعالى-: وزر النفاق، وزر الخيانة، وزر العمالة لأعداء الأمة، وزر الجرائم الكبيرة والهائلة التي تأتي نتيجة تلك المواقف والانحرافات الخاطئة لصالح أعداء الأمة؟ قضية خطيرة جدًّا.
ولاحظوا، اليوم في أقرب مثل: ما بعد موقف أمريكا وموقف ترامب في تبرعه بالجولان السورية العربية لإسرائيل، أقصى ما يمكن أن تفعله تلك الأنظمة، أقصى ما يمكن أن تفعله إذا وصلت الأمور إلى نهاياتها- بمصادرة بلد عربي وإسلامي، أو جزء منه، أو مقدسات الأمة- أن يجتمع زعماؤها بعد إجراءات تحضيرية مطولة، وترتيبات وخطوات لا أول لها ولا آخر، ليصدروا بياناً لطيفاً يؤكد على أنه: [لا، الجولان سورية، والقدس فلسطينية عربية إسلامية]، هذا أقصى ما بوسعهم أن يقدموه، في مقابل أن يكون لبعضهم- والأهم فيهم كأنظمة- خطوات عملية للتطبيع، والتحالف، والتعاون الفعلي والعملي مع إسرائيل وأمريكا في مشاريع وأجندة كثيرة تدمر الأمة، وتعزز من الهيمنة والسيطرة الأمريكية حتى على تلك المناطق، وتواجه من يتصدى فعلياً ويتصدى بشكلٍ صحيح للخطر الأمريكي، والتهديد الأمريكي والإسرائيلي، من يقاوم إسرائيل بالفعل، بالموقف؛ يكون عدواً لتلك الأنظمة، تعاديه، تحاربه، تستهدفه بكل أشكال الاستهداف: سياسياً، وعسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً… وبكل الوسائل والأساليب، تسعى إلى إضعافه بكل ما تستطيع، هم يعملون لإسرائيل هذه الخدمة فيمن يقاومها: في حزب الله في لبنان، وفي المقاومة في فلسطين، وفي سوريا… وفي بقية المنطقة العربية، من يعادي إسرائيل؛ يعادونه، ويشتغلون ضده بكل شغل، بكل وسيلة، بكل أسلوب، ويكتفون في أقصى ما يقدمونه من موقف بإصدار بيان ملطَّف، هل يمكن أن تراهن الأمة على أولئك في حماية نفسها وهم على هذا النحو، بهذه الشاكلة، بهذه الطريقة، بهذه السياسة؟ وأن هذه مجرد إجراءات شكلية للتغطية، كما اعتاد الناس منهم في المراحل الماضية.
ولذلك نحو معنيون ونحن نواجه هذه التحديات والأخطار، وما نواجهه اليوم كشعبٍ يمني يحارب، يعادى، وتتجه بعض الأنظمة والكيانات- التي هي أدوات تشتغل تحت إشراف أمريكا، وفي مقدمتها النظام السعودي والنظام الإماراتي- لاستهدافنا كشعبٍ يمني، والمحاربة لنا، ونحن في العام الخامس معنيون أن نعزز هذه المبادئ، وهذه القيم، وهذا الوعي، وأن نستفيد من هذا المشروع العظيم الذي يزيدنا تماسكاً، وعزماً، وإرادة، وبصيرةً، ووعياً، وفهماً، صحيحاً، ويوفر لنا ما نحتاج إليه من تعبئة معنوية وإيمانية، ويساعدنا في الارتباط بالله أكثر وأكثر، وتعزيز العلاقة بالله، والثقة بالله، والتوكل على الله أكثر وأكثر فيما يؤهلنا للحصول على المزيد من رعايته ومعونته ونصره، هذا الاتجاه هو الاتجاه الصحيح، معنيون بشكلٍ مستمر أن نحرص على أن نزداد وعياً أكثر فأكثر، وعزماً أكثر فأكثر، واستشعاراً للمسؤولية بشكلٍ أكبر.
هذا الأثر الطيب نراه اليوم في واقعنا بشكلٍ كبير في الساحة اليمنية، وأسهم لأن نكون في العام الخامس في صمودٍ عظيم في مواجهة هذا العدوان، بالرغم من كل ما يمتلكه من إمكانات وقدرات، وبكل أساليبه الوحشية والإجرامية والتضليلية القذرة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم الشهيد القائد وشهداءنا الأبرار كافة، وأن يشفي جرحانا، ويعافي مرضانا، ويفرِّج عن أسرانا، وينصرنا بنصره إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛